علوي المشهور- البيت الخليجي-
تتصدر البطالة في البلدان العربية الأزمات منذ عقود، ولا يمكن إنكار تأثيرها كسبب رئيسي لإشعال ما سُمي بثورات الربيع العربي وما لحقها من احتجاجات كانت على شكل موجات متقطعة اجتاحت العالم العربي من المحيط إلى الخليج. والمؤسف أن الأسباب التي أدت لحدوث تلك الاضطرابات لازالت قائمة، حيث من المتوقع حسب “مسح التطورات الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة العربية” الذي تصدره (الإسكوا)، أن يرتفع معدل البطالة إلى 12.5% كمتوسط، وهو ضعف المعدل العالمي المتوقع (5.7%) حسب منظمة العمل الدولية.
حتى في دول الخليج الغنية بالنفط الأمر لا يختلف كثيرا، إذ تصل نسب البطالة لدى شريحة الشباب لأرقام قياسية هي من بين الأعلى عالميًا لتكون 28.7% في السعودية، ونحو 20% في الكويت وعمان والبحرين، و10% في الإمارات. يجدر الانتباه إلى أن دول الخليج كانت توفر فرص عمل للمواطنين بأجور مجزية في القطاع الحكومي -المترهل والذي يعاني من البطالة المقنعة – مع نمط حياة مدعوم في السكن والكهرباء والمياه مما أنتج ثقافة استهلاكية غير منتجة أدت لانسحاب المواطنين من القطاع الخاص وأضعفت ثقافة العمل لديهم.
في البدء، تبدو نسب البطالة في الخليج مضللة ولا يمكن الاعتماد عليها، إذ تفتقر للموضوعية خصوصًا أن الحكومات وحدها من يحق لها جمع البيانات واحتساب أعداد الباحثين عن عمل ونسبتهم من إجمالي القوى العاملة. من جانب آخر، يمثل الوافدون أغلبية العمال في سوق العمل بأكثر من 20 مليون – المقيمون بشكل شرعي– ويتم احتساب هؤلاء في نسب من يتم تشغيلهم. يمثل عموم الوافدين ما لا يقل عن ثلثي مجموع القوى العاملة في دول المجلس وتصل النسبة إلى 85% و90% في حالات قطر والإمارات. وتظهر نسب البطالة من إجمالي السكان متدنية لأن الأغلبية الساحقة من القوى العاملة هي أساسا من الأجانب، والوافد الذي لا يعمل لا يحق له البقاء في البلد أساسا حسب نظام الكفالة. ولذلك عندما يتم احتساب البطالة لدى المواطنين الشباب بالتحديد ترتفع النسب بشكل مطرد لتعبر بشكل أوضح عن عمق الخلل الهيكلي في المنظومة.
تعكس البيانات الصادرة عن المركز الإحصائي لدول الخليج صدمة حقيقية إذ تبين حجم الضرر الواقع على المواطنين، حيث تشير إلى أن هناك نحو 22.2 مليون مشتغل في الخليج حتى إبريل 2020، يشكل المواطنون 7 مليون مشتغل فقط، بينما ييلغ تعداد العمالة الوافدة نحو 15 مليون عامل. هذه الإحصائيات لا تشمل دولة الإمارات العربية المتحدة والتي بها ثاني أكبر تجمع للعمالة الوافدة في الخليج حيث يتجاوزون ال 8.8 مليون عامل أي أكثر من 85% من إجمالي السكان. وإذا أضيفت أعداد الوافدين في الإمارات لبقية دول المجلس فإن الإجمالي سيكون في حدود ال 23.8 مليون وافد أي أكثر من 3 أضعاف عدد المواطنين الذين يعملون في الخليج.
من دول الرفاه إلى سياسات التقشف
تتجه دول الخليج للتقشف وتقليل الإنفاق وتقليص التوظيف في القطاع الحكومي ورفع الدعم عن معظم الخدمات مع اعتماد ضريبة القيمة المضافة – وربما ضريبة الدخل مستقبلا – في حالة من التخلي عن السياسات الريعية السابقة دون إيجاد عقد اجتماعي “Social Contract” جديد ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. هذا التحول فشلت فيه الحكومات من ناحيتين، فلا هي تمكنت من توفير فرص عمل في الحكومة -اتجهت لخيار إحالة الموظفين للتقاعد المبكر- ، كما وأخفقت في أن تحسن بيئة العمل في القطاع الخاص الذي لازال يعاني من تدني الأجور مقارنة بالقطاع الحكومي، حيث يصل التفاوت بين القطاعين إلى نحو 200% كمتوسط لصالح الوظائف الحكومية حسب تقرير لصندوق النقد الدولي. هذا بالإضافة للتسريح وضعف النقابات العمالية أو غيابها، واعتماد القطاع الخاص على عمالة رخيصة غير ماهرة في ظروف غير إنسانية وبأجور منخفضة تجعل قبول المواطن لها أمرا صعب الحصول.
يعتقد البعض أن هذه حالة طبيعية لدول تمتلك ثروات طبيعية هائلة وعدد سكان قليل، إلا أن تجارب دول نفطية مشابهة تثبت العكس، فالنرويج وأستراليا وكندا كلها دول غنية الموارد بكثافة سكانية قليلة مقارنة بالمساحة ولكنها لم تتجه لفتح باب الهجرة أو الركون لخلق اقتصادات ريعية بل حافظت على ثقافة العمل لدى المواطنين، وتبنت سياسات هجرة تقوم على استقطاب الكفاءات والعقول المهاجرة والعمالة الماهرة فقط. ساهم هذا في الحفاظ على فرص العمل للمواطنين وسهل اندماج الوافدين معهم وجعل منهم إضافة للسوق المحلي بدلا من أن يصبحوا عبئًا عليه.
البطالة الهيكلية
للبطالة أشكال مختلفة، منها ما هو مؤقت – ظرفي – ناتج عن الأزمات المالية أو تراجع النشاط الاقتصادي، ومنها ما هو هيكلي “Structural Unemployment” في بُنية النظام الاقتصادي. ورغم خطر النموذج الأول إلا أنه سرعان ما تتعافى منه الدول بعودة النمو لطبيعته. أما بالنسبة للبطالة الهيكلية فهي طويلة الأجل وأسبابها متجذرة في سوق العمل، ويصعب التخلص منها دون اللجوء إلى معالجات هيكلية.
يمكن القول أن البطالة التي تعاني منها دول الخليج هي من النوع الثاني لأن أعداد العاطلين في صعود مستمر طيلة السنوات الماضية بغض النظر عن ارتفاع أو انخفاض أسعار النفط. تخفف الحكومات من حدة الأزمة عن طريق التوظيف في القطاعات العسكرية والأمنية وبعض الجهات الحكومية رغم عدم وجود حاجة فعلية لذلك وهو ما يستنزف الموازنات العامة للدول ويجعل معظمها يتجه لبند الرواتب، وقد تتفاقم الأزمة لتتسبب بالعجز وتضخم الدين العام مثلما حصل مع سلطنة عمان التي وصل الدين العام فيها إلى نحو 56 مليار دولار أي ما يقارب 21 مليار ريال عماني، والبحرين التي ارتفع فيها الدين العام لأكثر من 133% من الناتج المحلي الإجمالي حسب صندوق النقد الدولي في عام 2019 وهذه الأرقام والنسب من المرجح أن تزيد بعد جائحة كورونا.
على مدى أعوام مضت، جهود المؤسسات الحكومية في دول الخليج لم تسهم في حل المشكلة بشكل جذري، وإنما كانت حلول مؤقتة تسببت بزيادة تعقيد الوضع ليصبح مثل كرة الثلج التي تكبر مع الوقت ويصعب إيقافها. وبما أن أسباب أزمة البطالة في الخليج هيكلية، فلابد أن تكون المعالجات كذلك هيكلية. ولذا يمكن تقسيم الحلول إلى ثلاثة أقسام، قصيرة المدى، متوسطة المدى وطويلة المدى، وكلها لابد من أن تبدأ الحكومات بالعمل بها منذ اللحظة لتجنب تعاظم وتعمق الأزمة.
الحلول قصيرة المدى تتمثل بالإحلال المباشر بالإضافة إلى إيقاف شركات التوظيف ومنع تأشيرات العمل الجديدة إلا للضرورة القصوى. البدء بالإحلال في الحكومة لسهولة التطبيق وإمكانية رصد الوظائف من هذا النوع. وكذلك الحال مع القطاع الخاص الذي يجب توجيهه ليساهم بشكل فاعل في تقليص الأزمة من خلال إعطاء الأولوية في التوظيف للمواطنين. هذه الإجراءات ضرورية، وقد تخفف من حدة الأزمة على المدى القريب لكنها لن تكفي على المدى البعيد لذلك لابد أن تصاحبها إصلاحات هيكلية.
على المدى المتوسط، لابد من العمل على الدراسات القطاعية (مثل السياحة والصناعة والزراعة والتجزئة والنقل وغيرها)، أي أن تصبح الأبحاث والتطوير جزءاً من معالجة هذه المشكلة. فتقوم الحكومات بدراسة مختلف القطاعات كلٌ على حدى لتعرف ما هي المشكلات التي تواجه تلك القطاعات في توطين الوظائف، والفرص التي يمكن أن تخلقها، وكيف يمكن أن تتواءم مع مؤهلات وأعداد الخريجين. لابد أيضًا من وضع خطط مدروسة لصعود المواطنين في السلم الوظيفي في القطاع الخاص وقد يكون هذا من خلال برامج للحكومات والشركات الحكومية تشترط فيها نسب لتوطين الإدارات العليا والمتوسطة للحصول على المناقصات، بمعنى أن أحد معايير التقييم يكون مدى توطين الوظائف العليا في الشركات الخاصة.
على المدى البعيد لا يمكن إنكار الضرر الذي يتسبب به النظام المتبع في سوق العمل حاليا “الكفالة” في أزمة البطالة، وذلك لأنه يعتمد على عمالة رخيصة في ظروف غير عادلة تجعل منافسة العمالة الوطنية لها صعبة التحقق. الواجب هو أن تتجه دول الخليج إلى تبني سياسات جديدة مرتبطة بنظام الهجرة والعمل، كالتخلي عن نظام الكفالة وإيجاد نموذج بديل يقوم على استقطاب العقول المهاجرة ورؤوس الأموال والكفاءات والعمالة الماهرة. وهذا يعني تقليص أعداد العمالة الوافدة بشكل كبير، وفي المقابل منحهم امتيازات مثل الإقامة الدائمة وإمكانية الحصول على الجنسية تحت شروط معينة.
تبدو المرحلة القادمة مليئة بالتحولات والتحديات، وملف التشغيل دون معالجة جذرية قد يتحول لأزمة اجتماعية وسياسية مزمنة لدول الخليج. لا توجد خيارات سهلة وكل المعالجات الهيكلية لها ثمن، لكن كلما تأخرت الحلول ازدادت الأزمات تعقيدًا.