مبارك الفقيه- راصد الخليج-
يقول المفكر العربي الجزائري مالك بن نبي: "لما كان وضع الإنسان هو وضع الفرد المستعمَر القابل للاستعمار، فإن العلاقة بين الذات والموضوع هنا هي علاقة الفرد المستعمَر بذاته واعتباره قابلاً للاستعمار، وليست علاقة بين مستعمِر ومستعمَر، وهذه الملاحظة تسجّل خطأ السياسات التي اتّبعها العالم الإسلامي في الصميم؛ فقد اتجهت (هذه السياسات) في كفاحها إلى المستعمِر، دون أن تلتفت إلى الفرد الذي تسخّره للقضاء على الاستعمار".
ما أشار إليه ابن نبي جاء في كتابه "وجهة العالم الإسلامي" الذي ألّفه عام 1986، ولا تزال هذه الحقيقة ترزح بثقلها حتى اليوم - أي بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود من الزمن - على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي في العالمين العربي والإسلامي، دون تحقّق أي تغيير على مستوى الخروج من قوقعة عقدة المستعمَر، بل استفحل هذا الشعور باتجاه الركون إلى التبعية بذريعة عدم وجود القدرة، واستحالة إمكانية توافر المقوّمات التي تجعل من العرب والمسلمين في خانة الريادة والاستقلال عن المستعمِر الغربي، وفي حين يجب أن تشكّل قضية فلسطين رأس القضايا التي يظهر فيها العرب والمسلمون قوّتهم وقدرتهم باتجاه الحفاظ على وحدتهم ونسيجهم الوطني والقومي، إلا أن واقع الحال يفيد العكس تماماً، فقد تحوّلت هذه القضية إلى أيقونة هزيمة واستسلام تحت شعار تحقيق السلام - وأي سلام ومع من؟ - وكما هلّل العرب لتشكيل الأمم المتحدة بعد دفن عصبة الأمم أملاً باستعادة الحقوق، ها هم يهلّلون للمستعمِر آملين أن يمنّ عليهم بإزالة استعماره، كأمل إبليس بالجنّة.
بالأمس استضافت العاصمة الأردنية عمّان أعمال الدورة الـ29 للإتحاد البرلماني العربي، وشارك فيها رؤساء وممثلون عن 17 برلماناً عربياً، وكان الملفت مشاركة رئيس مجلس الشعب السوري حمودة الصباغ، في أول مشاركة لدمشق في هذا النوع من الاجتماعات قبل ثماني سنوات وبعد إلغاء عضويتها في الجامعة العربية، ويفترض شعار هذه الدورة "القدس العاصمة الأبدية لدولة فلسطين" - بحسب رئيس مجلس النواب الأردني عاطف الطراونة - توحيد المواقف وحشد الطاقات لدعم القضايا العربية الرئيسية وخاصة القضية الفلسطينية ودعم الفلسطينيين لنيل حقوقهم العادلة، وتسليط الضوء على الاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى وعمليات التدنيس التي يرتكبها المستوطنون وقوات الاحتلال، والوقوف بحزم في المحافل الدولية تجاه ما تقوم به إسرائيل من عملية تهويد للقدس، ودعم اللاجئين الفلسطينيين من خلال دعم منظمة "الأونروا".
هذه هي العناوين العامة، أما أهم المواقف التي أطلقها المشاركون، فجاءت في كلمة رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري الذي أكد على انتهاج خيار المقاومة لاستعادة الحقوق الفلسطينية والعربية المسلوبة، وكذلك في كلمة نظيره الكويتي مرزوق الغانم الذي أكّد موقف بلاده الرافض للتطبيع الخليجي - الإسرائيلي "حتى لا يلعننا التاريخ"، وهي إشارة واضحة لانتقاد الخرق الخليجي الثلاثي السعودي - الإماراتي - البحراني لمقاطعة "إسرائيل"، والذي تجلّى بشكل واضح في حفلة "تقاسم الخبز" خلال مؤتمر وارسو الذي انعقد في منتصف شباط الماضي ونجمه بنيامين نتنياهو، أما كلمة فلسطين فجاءت يتيمة، كما قضيتها، وسط تباين ظهر في كلمات المجموعات العربية المتشرذمة بين منتصر لفلسطين وبين مستنكر على إيران، وينفضّ الجمع على حناجر مبحوحة وأقلام مستهلكة وأوراق مطبوعة ومواقف رنّانة وبيان ختامي يستنسخ أرشيف البيانات العربية المعتادة، التي ما كانت لتصدر إلا بعد أن يراجعها وينقّحها ويوافق على صوغ حروفها المستعمِر، ويستهلكها المستعمَر.
لا شك أن أصداء المواقف في عمّان تردّدت في شوارع القدس وأزقتها، التي لا تبعد أكثر من 70 كيلومتر، ولكن المقدسيين - كما كل الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة وحتى في أراضي الـ 48 - اعتادوا هذه المواقف، وكأني بهم يردّدون كلمات الخطابات عن الدعم وحشد الطاقات قبل أن تقال، ولكن لا أحد من الصادحين في مؤتمر عمّان أوضح كيف سيتم الدعم؟ هل هو دعم الكلام وتأمين الحماية الدولية للفلسطينيين أو دعم القوى والسلاح؟ وأي نوع من الطاقات سيتم حشدها؟ هل طاقات الجيوش والتسلّح وتوحيد البندقية أم طاقات المؤتمرات والاجتماعات السياسية والمواقف الإعلامية؟ ولأي هدف؟ هل الهدف هو تحرير فلسطين والقدس من الاحتلال وإنجاز الاستقلال أم دعم صمود الفلسطينيين وتقوية صبرهم أكثر للاستمرار في كونهم مستعمَرين؟ أم أن الهدف هو في تكريس نموذج التسويات التي سبق أن تم اعتمادها في اتفاقيتي كامب دايفيد ووادي عربة وتسويق حل "الدولتين" وتقسيم القدس إلى "عاصمتين" شرقية وغربية؟ وكأن "إسرائيل" باتت قدراً ولا مفر سوى التعايش مع هذا القدر، الذي لم تفرضه القوة بقدر ما استلزمه ركون المستعمَر، كما العبد الذي عاد إلى سيّده بعد تحريره لأنه اعتاد العيش عبداً، ولا يملك قرار العيش حراً.
وحيدان كانا، بري والصبّاغ، أكدا على "المقاومة ثم المقاومة ثم المقاومة، أولاً وثانياً وثالثاً وأحد عشر كوكباً"، وبهما يلحق الآخرون، ولا أمل يبدو في أن يترجم العرب أقوالهم أفعالاً، لنختم كما بدأنا مع المفكّر العربي الجزائري مالك ابن نبي الذي يقول: "لو أننا اتّبعنا التطوّر العام للسياسة الإسلامية حتى قضية فلسطين؛ فلن نشعر - بكل أسف - بأنها ترتكز على مبادئ تامّة التحديد، أو أصول واضحة، ولم نحدّد لها غايات واقعية تخضع لنظريات تهديها سبلها، حتى تبلغ هدفها بطريقة علمية، بل لن نعثر في تلك السياسة على المبدأ التقليدي الذي وضعه الباعث الرائد جمال الدين الأفغاني وأطلق عليه: "الأخوة الإسلامية"، ليكون أساساً ضرورياً لأية سياسة في البلاد الإسلامية.. ونحن نرى أن الشعوب المستعمًرة لن تبلغ تحرّراً حقاً إلا إذا أعدّت بنفسها أدوات تحرّرها إعداداً علمياً".. وللأسف هذا هو الواقع حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.