فؤاد السحيباني- خاص راصد الخليج-
إلى الأسبوع الأخير من حزيران/يونيو، تدخل مصر بخطى ثقيلة، وقلبها معلق بموازنة جديدة، لم تشهد مثيلًا لها من قبل، وعقلها وراء لعبة صُنعت للتغييب وإدعاء وجود إنجاز ما لأنظمة فشلت حتى في الإدارة اليومية الروتينية، وقدمها علقت في ورشة خيانة كاملة، تستهدف كامل أرض فلسطين التاريخية، يريدها دونالد ترمب، الرئيس الأميركي، صفحته البيضاء، علّها تضمن له 4 سنوات أخرى بالمكتب البيضاوي.
بين الأحداث الثلاثة ارتباط، أكثر من أن نبدو مغفلين لنصفه بالمصادفة، فكرة القدم على سبيل المثال يجري استخدامها من الأنظمة المتعاقبة لرسم صورة خيالية عن الحياة في مصر، والاستفادة من الشعبية الهائلة لنجوم الكرة في ربط الناس بالحاكم، ومع ارتفاع سعر تذاكر دخول "إستادات الكرة" فقد ضمنت وصول جمهور معين، ينتمي للنخبة القادرة، سواء الأغنياء أو الشريحة الأعلى من الطبقة الوسطى، وهؤلاء مضمون عدم خروجهم عن النص الموضوع، بفعل عدم التأثر –وربما الاستفادة- من الأزمة الاقتصادية، والأهم، خروج الصورة بشكل يليق بما يود النظام رسمه كذبًا لحال البلد المنكوب.
أما الأحداث المهمة، فتنحصر في تطبيق الموازنة الجديدة 2019-2020، بما تحمله من كوارث على الفقراء والطبقة الوسطى، وبدء تنفيذ البند الأول من صفقة القرن، والدائر أساسًا حول أوضاع اقتصادية جديدة، رسمها وحصل على موافقة "المعتدلين" عليها جاريد كوشنير صهر "ترمب" اليهودي، بما تعنيه من تأبيد الدور المصري التابع للصهيونية، وتكريس القطيعة الكاملة بين المشرق العربي، وأكبر شعب عربي من حيث عدد السكان، وبالتالي التأثير على علاقة وجدانية تربط هذا الشعب بمحور المقاومة، وتشده دائمًا إليه.
الوضع الاقتصادي المصري، والذي تعكسه مباشرة الموازنة الجديدة، والهرولة وراء أوامر واشنطن وأحلام تل أبيب، يتبدى ظاهرًا في حالة ميئوس من علاجها، بل وسائرة حتمًا إلى إفلاس كامل، ليس الغد هو ما نتكلم بشأنه بل الصبح القريب.
خصصت الموازنة العامة نحو 88%، أي 973 مليار جنيه من إجمالي إيرادات الدولة والبالغة نحو 1.1 تريليون جنيه، لسداد القروض وفوائدها، فيما تركت نسبة أقل من 12% للإنفاق على الشعب، سواء للرواتب أو الصحة والتعليم والبنية التحتية، ومصروفات الأمن والدفاع وغيرها!
المفجع أن الدولة تحصل على نسبة 84% من إيراداتها، أو 856 مليار جنيه، خصمًا من جيب المواطن مباشرة، فيما يعرف بالضرائب، وغابت عن عباقرتها ومسؤوليها الأفذاذ القدرة على إيجاد أي طريق لزيادة الداخل إلى الخزانة، سوى بالجباية من الفقير والموظف، وتنوي الحكومة استدانة 440 مليار جنيه أخرى، لزيادة مستوى الدين العام الحالي، والتاريخي، إلى رقم جديد أفدح، وفي الحقيقة فإن كل ما يبرعون فيه هو ضرب الأرقام القياسية الدالة على العجز والتراجع والتبعية.
هذا الوضع لا يمكن أن يستمر عامًا آخر، بأي حساب، ولو ابتلعنا بحرًا من النوايا الحسنة المتفائلة، فالديون الخارجية –وهي العنصر الأخطر المكون للدين العام- تضاعفت، وبالتالي سيزيد المدفوع لقاء خدمتها وسداد أقساطها خلال العام المقبل، والتأمين على ديون مصر السيادية هو الآخر يرتفع، ما يعني زيادة كلفة الاقتراض بشكل غير مسبوق، وارتفعت الديون الخارجية المصرية، من 41.3 مليار دولار في 2014، أي قبل الدخول في دوامة صندوق النقد، إلى 96.6 مليار دولار، بنهاية كانون أول/ديسمبر 2018، ويتوقع وصولها إلى رقم يناهز 102 مليار دولار حاليًا، مع ديون داخلية 4.108 ترليون جنيه.
الواقع لا يندرج تحت بند السواد، وفقط، بل ينتمي إلى عالم من روايات فرانز كافكا، المأساوية والعبثية، في آن، والحل بشروط الوضع الحالي مجرد ضرب من الجنون، فمن أين يتأتى لدولة أن تقوم بمهامها، تجاه مواطنيها ولضمان استمرار مؤسساتها، وهي تحصد جيوب شعبها أولًا بأول، لتلقي بها إلى الخارج، غنيمة سهلة للبنوك الغربية ومؤسسات التمويل العالمية.
وبالتالي كان مفهومًا أن يشارك النظام المصري في ورشة البحرين، الخطوة الأميركية الأولى لتصفية القضية الفلسطينية، بالتواجد إلى جوار الأردن والمغرب، ومتوقعًا كذلك ابتلاع إهانة "كوشنير" بإعلانه الحضور المصري، دون أن يلقي بالًا للخارجية المصرية، فكل شيء يهون أمام الوعود بعشرات المليارات من الدولارات، قادرة على منح النظام فرصة البقاء، والتنفس.
المؤتمر الأميركي يستهدف، كما خرجت التسريبات الأميركية، حل قضية فلسطين على حساب خزائن الخليج، بإيجاد فرص عمل وتشغيل ورزق للمواطن الفلسطيني، ولكن خارج فلسطين، في سيناء تحديدًا، وتوطين لاجئي الأردن، في نسف كامل للقضية، بكل أبعادها الدينية والوطنية والقومية.
الوعود الأميركية تشبه أحلام اللبن والعسل في خطبة البابا أوربان الثاني، الرجل الذي أعلن الحروب الصليبية على العالم الإسلامي، مصر ستستفيد بحزمة تمويلية هائلة، يحلم بها النظام، وهو على استعداد للمقايضة، كما فعل في تيران وصنافير، الصحافة الصهيونية تحدثت عن 250 مليار دولار، في شكل مساعدات وتنازل عن ديون ومشروعات، بالإضافة إلى إقامة مشروعات بسيناء تخص فلسطيني غزة، بقيمة 30 مليار دولار، وتحصل مصر فورًا على 9 مليارات دولار، لمساعدة الموازنة المنهكة.
المضحك في وعود المليارات، التي ستنهال على مصر فور بدء الصفقة، أنها سبق ونالت المليارات بالفعل، بعد نجاح الرئيس الحالي في انتخابات أعقبت إزاحة الرئيس الأسبق، الدكتور محمد مرسي، الذي قضى في سجون النظام منذ أيام، وخلال مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي، المعروف بمؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصري، في آذار/مارس 2015، حصل النظام فورًا على 12.5 مليار دولار، بجانب توقيع صفقات هائلة، تضاربت أرقامها على مانشيتات الصحف الحكومية، وتقدر بمليارات أخرى من الدولارات، ورغم ذلك لجأت في نهاية العام لصندوق النقد الدولي، طالبة اقتراض 12 مليار دولار أخرى، ثم لبت صاغرة حزمة شروط الصندوق، بما فيها اقتراض 30 مليار دولار من الأسواق العالمية.
أي أن المناقشة، وبشكل برجماتي –نفعي- فقط، تثبت أن عشرات المليارات من الدولارات، تركت الاقتصاد المصري أكثر تبعية وهشاشة، وصبغت حياة السواد الأعظم من المصريين بعذاب الجحيم، ونسفت كل إمكانية للاستقرار الاجتماعي، أو الازدهار الاقتصادي.
مصر الرسمية، وباختصار غير مخل، لبست أثواب الهزيمة، بإرادة عليا منفردة، خاصمت أحلام شعبها وأعز أماني أمتها، وبعدها ساد الصراخ من نسيج الأشواك، مع كل أزمة –وما أكثرها- حتى احترقت، ورغم التذلل على أعتاب السادة الجدد، في واشنطن وغيرها، لم يأت يوم الفرح، بعد سراب البدايات الخادع، والألم صاحب الطريق الأوحد.