العربي الجديد-
على الرغم من التحولات التي يشهدها العالم، بسبب تداعيات جائحة كورونا التي دفعت دولاً ومنظمات دولية وإقليمية عديدة، إلى تبنّي مقارباتٍ جديدة، تتسم بالسرعة والابتكار والفعالية، يبدو أن ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، لا يزال يجترُّ الحلول/ المقاربات القديمة، بوصفها أداةً ناجعةً، لمواجهة التحديات المتصاعدة.
ليس مستهجناً أن تسعى الرياض للانخراط في الجهود العالمية للتصدّي لفيروس كورونا، ولا تثريب على العاهل السعودي، في اتصاله هاتفياً، برئيس وزراء إيطاليا جوزيبي كونتي، وتعبيره عن تضامن بلاده مع روما في هذه الظروف الحرجة. ولا غضاضة مطلقاً في دعوة السعودية إلى قمةٍ استثنائية لمجموعة العشرين، لمناقشة أمرٍ جلل كهذا، سيما مع توقعات المختصين بأنه يحمل تداعياتٍ خطيرةً على الاقتصاد العالمي.
ولكن بغض النظر عن "الخطاب السعودي" بشأن هذه القمة أو مخرجاتها، ثمّة من يتساءل: هل يمكن أن يشكّل مجرد انعقادها نقطةَ انعطافٍ في مسار السياسات السعودية؟ وهل يكفي أن تلجأ الرياض إلى تفعيل علاقاتها الدولية، عبر استضافة هذه القمة، للتغطية على إخفاق سياساتها على الصعد، الداخلية والخليجية والعربية والإقليمية، الأمر الذي ازداد وضوحاً بعد جريمة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، في إسطنبول في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2018؟
ربما سعى محمد بن سلمان، في عقد القمة بهذه السرعة، إلى تحقيق هدفين أساسيين؛ أحدهما التغطية على تفاقم أزمات النظام السياسي السعودي في عهده، كما تجلّت في عدة مظاهر، أبرزها اعتقال الأمير أحمد بن عبد العزيز، الشقيق الأصغر للملك سلمان، واعتقال الأمير محمد بن نايف، ولي العهد السابق، في خطوةٍ استباقية لتحجيم نفوذهما، ومنعهما وغيرهما من الأمراء، من مجرد "التفكير"، في اعتراض طريقه إلى عرش المملكة. واستطراداً يمكن القول إن بن سلمان يواجه أزمات داخلية وخارجية متشابكة، منها: تفاقم مشكلات السياسات العامة، وتوقف إيرادات الحج والعمرة بعد إغلاق الحرم المكي أمام الزائرين، فضلاً عن انخفاض أسعار النفط وتداعياته على تضاؤل إمكانية تنفيذ "رؤية 2030"، خصوصاً برامج الترفيه وتنشيط السياحة ومحاولات تقليص بطالة الشباب من خرّيجي الجامعات، سيما على ضوء أزمات السياسة الخارجية، بدايةً من الاستمرار في الحرب على اليمن، على الرغم من كارثية نتائجها على الصعيد الإنساني بعد خمس سنواتٍ عجاف، ومروراً بحصار قطر وتداعياته على تفكيك منظومة مجلس التعاون الخليجي، لمصلحة توطيد العلاقة بين الثنائي السعودي/ الإماراتي.
إضافةً إلى الصراعات الإقليمية التي تنخرط فيها السعودية مع كلّ من إيران وتركيا، وليس انتهاءً بحرب أسعار النفط مع موسكو التي تلت انهيار اتفاق روسيا مع منظمة أوبك على خفض الإنتاج في الـ6 من الشهر الماضي (مارس/ آذار)، في مقابل تقارب سعودي مع إسرائيل، على نحو يكشف الفشل في إدراك طبيعة التحولات التي تطرأ على النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، حيث يتآكل نفوذ المحور الأميركي/ الإسرائيلي، ما يجعل رهان الرياض على هذا المحور تشييداً لقصور شاهقة على رمال متحرّكة. ويتعلق الهدف الآخر من انعقاد قمة العشرين "افتراضياً"، بتوظيفها لإبراز دور السعودية على الصعيد العالمي، وخصوصاً دور محمد بن سلمان، بوصفه طرفاً موثوقاً ومسؤولاً، يمكنه تقديم إسهامٍ فعّال، في حل مشكلات العالم، ومن بينها أزمة كورونا.
وليس غريباً في هذا السياق أن يشتطّ "الخطاب السعودي" ومؤيدو ولي العهد، إلى حد القول إن المملكة تسعى إلى "عولمة إنسانية" لمعالجة آثار أزمة كورونا، بدلاً من "العولمة الرأسمالية المتوحشة" التي كشفت نفسها بعد ارتباك إدارة أميركا ودول أوروبية عديدة في الأزمة الخطيرة، وضخامة استثماراتها في مجالات التصنيع العسكري وتدمير البشر، وإهمال قطاعات مدنية حيوية، مثل الصحة والتعليم والبحث العلمي... إلخ. الأعجب من ذلك أن هذا الخطاب يتجاهل تداعيات السياسة السعودية الإقليمية على الجوار، بدايةً من اليمن، مروراً بدول الخليج، وصولاً إلى سورية ولبنان والعراق ومصر وليبيا والسودان.
وليس خافيا على ذي بصيرة، حجم الأزمات التي حاولت الرياض تصديرها إلى كل هذه الدول، عبر سياسة "التأزيم" التي ينتهجها بن سلمان ومستشاروه المقرّبون، والتي تخالف مألوف السياسة الخارجية السعودية، في عهدي الملكيْن فيصل وفهد، بل تجافي سياسة الملك سلمان نفسه في عامي 2015 و2016، قبل أن يتولى محمد بن سلمان ولاية العرش، وينتهج سياسةً مختلفة، على الصعيدين، الداخلي والخارجي.
وعلى الرغم من تقديم ولي العهد، منذ منتصف عام 2017، الأبعاد الأمنية والإعلامية الآنية، على الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية في صنع السياسات العامة، وغلبة التكتيكي على الاستراتيجي، مع إعطاء الأولوية لإنتاج صورٍ وانطباعاتٍ ذهنية سريعة/ آنية لدى المواطنين بأن البلاد تتحول وتشهد "نهضة اقتصادية/ سياحية/ ثقافية" كبرى، واستخدام أسلوب استضافة أحداث ومؤتمرات عالمية وبطولات رياضية لتحسين الصورة السعودية خارجياً، يمكن القول إن أزمات الدولة قد تفاقمت، سيما أن "رؤية 2030" لا تراعي أولويات الدولة وحاجات المجتمع السعودية، ولا تعكس التوازن في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فضلًا عن تجاهلها المتعمّد الأبعاد السياسية والإصلاح السياسي وإطلاق الحريات، فهي رؤية مصمّمة بروح وأفكار "نيوليبرالية"، تعكس رغبة الرياض المتزايدة في الاندماج أكثر في النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، في إطار عملية إعادة تشكيل النظام الإقليمي في الشرق الأوسط، ولو عبر التقارب مع إسرائيل، وصناعة عداواتٍ غير مبرّرة مع كل من أنقرة وطهران.
مجرد انعقاد قمة العشرين لن يحلّ، على الأرجح، مشكلات السعودية، فهناك حدود لنجاح سياسات تحسين الصورة الخارجية في ظل تفاقم أزمات الداخل. وبدلاً من السعي للحصول على الدعم الأميركي والدولي، للتغطية على المشكلات الداخلية، عبر عقد القمة "الافتراضية" هذه، ربما تتمكّن الرياض من استعادة شيء من مكانتها ونفوذها في العالمين، العربي والإسلامي، عبر تغيير أسس سياساتها الداخلية، وإعادة تعريف "أمنها القومي"، ليشمل نواحي صحية واجتماعية واقتصادية وعلمية، مع تدشين مفهومٍ صحيح للمواطنة، يقوم على شراكة حقيقية بين المجتمع والدولة، ثم الشروع فوراً في مسار مصالحة مع الدوحة، تستعيد بها ثقة دول الخليج، وإيجاد حلٍّ سياسي لحرب اليمن، والتخلي عن دعم سياسات الثورات المضادة بكل نتائجها الكارثية على الشعوب العربية، واعتماد منطق الحوار والتوازن واحترام المصالح المشتركة، مع الجارتيْن الإقليميتيْن، تركيا وإيران، من دون أن تدير الرياض ظهرها لقضية فلسطين، ومن دون رهاناتٍ على "الاستقواء" بإسرائيل ضد إيران وحلفائها في الإقليم من المليشيات المسلحة.
تحتاج الرياض للتفكير في دلالات مبادرة زعيم أنصار الله، عبد الملك الحوثي، إطلاق سراح عسكريين سعوديين، مقابل إطلاق المعتقلين الفلسطينيين من حركة حماس في السجون السعودية، فهي مبادرة تكشف تراجع مكانة السعودية. ولا مناص من أن تراجع الرياض مجمل سياساتها، إن أرادت تجاوز أزماتها الداخلية والخارجية، علماً أن تأكيد مكانة السعودية ونفوذها يبدأ من المستوى المحلي، ثم الخليجي، ثم العربي، ثم الإقليمي، ثم الدولي، من دون إخلال بدوائر حركة السياسة الخارجية.
باختصار، سيكون هذا العام حاسماً للسعودية، خصوصا في إدارة ملفات: ضبط الصراعات أو تفاقمها داخل أسرة آل سعود، نهاية حرب اليمن أو تهدئتها، استضافة قمة مجموعة العشرين في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، أو تأجيلها، فوز الرئيس الأميركي دونالد ترامب بولاية جديدة أو خسارته في ظل ارتباك إدارته أمام أزمة جائحة كورونا.