فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)
قليل هو نتاج الفكر البشري الذي استطاع قهر حاجز الأزمنة، ومخاطبة الأمم والشّعوب أجيالًا بعد أجيال، وقرونًا تلو قرون. لكنّ البعض استطاع ببساطة تحقيق المعادلة الصّعبة باستقراء وقائع الحياة اليوميّة للنّاس، وسبر أغوار المشكلات والأحداث وتفسير الآلام والمصائب التي عصفت بالعرب وتعصف بهم، ولعلّ أفضل من قدّم لنا هذا النّموذج هو العبقري المسلم الكاتب "عبدالله بن المقّفع".
الرجل الذي نشأ في حضن بلاد فارس القديمة، مشبعًا بثقافتها عارفًا ومتفهمًا لتاريخها، كونها أرض تلاقي الحضارات الأرقى في العالم القديم (الصينيّة والهنديّة والعربيّة) قد سجل واحدًا من أبدع وأكمل الإنتاجات الإنسانيّة للحضارة العربيّة الإسلاميّة في كتابه الجليل "كليلة ودمنة"، المنقول كما قال هو عن كتاب الحكيم الهندي القديم "بيدبا"، وخلاصة ما قدّمه من نصائح ودلائل للملك "دبشليم".
قال بعض التراجمة وكتّاب الأخبار القدامى إنّ هناك أحد أربعة أسفار جليلة أنتجها الفكر الإسلامي، بجانب "الكامل" لـــــــ"المُبَرّد" و"البيان والتبيين" لــــــ"الجاحظ" و"العمدة" لــــــ"ابن رشيق"، هو كتاب "كليلة ودمنة". فـــــ"عبد الله" الشّهير بـــ"ابن المقّفع" كان يعيش في ظلّ حكم سلطوي غاشم، وشهرته تعود إلى عقاب أوقعه فيه "الحجّاج الثقفي" الذي ضربه حتى تفقعت يداه، فلم يكن أمام مفكّرنا، في هذا المناخ المرعب، سوى اللّجوء للحيلة في تمرير ما يريد، ونسب الكتاب إلى حكيم هندي، رغم ذهاب المؤرخ "ابن خلّكان" في كتابه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان" إلى أنّ "ابن المقّفع" هو الذي وضع كتاب "كليلة ودمنة".
الكتاب يكاد ينطق بعبقريّة "ابن المقّفع" النّادرة والاستثنائية، فهو بحقّ ملك الرموز والتوريّة، ووجد في الاختفاء وراء شخصيّاته من الحيوانات فرصة ليسجلّ كلمة الحقّ في وجه الجميع. والكتاب يتميّز ببلاغة مذهلة وخيال كاتبه يلامس السّماء، فلا عجب أنّ تلك التحفة النّفيسة وجدت طريقها عبر الترجمات الكثيرة إلى لغات وثقافات أكثر شعوب الأرض، وحفرت عميقًا في وعيها، وألهمت من بعده، سواء بالأسلوب أو الهدف.
تتحوّل الأوطان وحكّامها وأمورها في "كليلة ودمنة" إلى غابة، يحكمها الأسد، وحوله صراعات القصور ممثلة في الثور وابن آوى، ثم أمامه أعداء الخارج، وفي هذا كلّه يكشف عن طرق التعامل مع كلّ موقف بما يناسبه، فالحكمة والدهاء مطلوبين بشدة عند التعامل مع عدو كبير فائق الوزن، والحسم لا بد وأن يحضر في لحظات مفصليّة، والقائد يجب أن يكون ذكيًا كفاية ويملك قدرًا كبيرًا من المرونة في مواجهة المواقف الطارئة، ولديه من التبصّر ما يجعله يضع تصورًا لنتائج حركته وخطواته التالية، حتى قبل أن يتحرك أو يخطو، ففيه تقليل للخسائر أو توقيها، والقائد –أو الحاكم- المندفع سيقع في ممّا لا شك في أسوأ مصير، والرهان بمستقبل الشعوب ليس أمرًا يسيرًا ولا بسيطًا.
الفكرة الأساسية من وراء استعراض هذا الكتاب، لنرى فيه كيف لا يستفيد العرب من إرثهم الثقافي والمعرفي في التّعامل مع الظروف الصّعبة والمتأزمة، سواء في الدّاخل أو الخارج. فالعالم العربي، اليوم، يحتاج بشدة إلى قراءة واعية لتاريخه، وإعادة الأهميّة للمفكّرين أصحاب العقول، لا نريد المزيد من الغباء، أو بصورة أدقّ لا ينقص مأساتنا الحالية الغباء لنصنع ونخترع المزيد منه.. فالعالم كلّه يتغيّر والصدام الكبير وقع أو هو في طريقه باتجّاه الوقوع، والمواجهة بين العمالقة قد اندلعت على كلّ المستويات، وفي قمّة الدول السّبع الكبرى الأخيرة، ورد الفعل الروسي عليها قد ظهرت المزيد من النيران القادمة إلى الأزمة القائمة، وانكشف أنّ كلّ الأطراف لن تتراجع عن مواقعها أو مواقفها الحاليّة، والخنادق إلى حدّ بعيد قد تحدّدت وانحشر أطرافها فيها، الصّين وروسيا من جانب، والولايات المتّحدة وأوروبا الغربيّة من جانب آخر.
أين العرب من هذا كلّه؟
في الواقع؛ أسخف ما في الأمر أنّ القمّة العربيّة التي انعقدت في المملكة العربيّة السعوديّة، تحت لافتة لمّ الشمل وإعادة سوريا إلى الحضن العربي، قد أنتجت أيضًا موقفًا مشوّهًا، اختار أن يقف في الخندق الأميركي، وهو موقف غالبية النّظم الرسميّة العربيّة بالأصل، وأن يستضيف المهرّج الأوكراني "فولوديمير زيلينسكي"، في تصميم بغيض من النّظام السعودي على حشر الدول العربيّة في خانة حلفاء –أو أتباع- واشنطن، وخدّامها الأوفياء.
إذا كان العالم العربي، أو الأنظمة الرسميّة على الأقلّ، تتبع سياسة مصلحة، فلا بدّ أنّ شراء عداوة قوة كبرى مثل روسيا خسارة مؤكّدة ليس لها مسوّغ... فشراء الودّ الأميركي عمليّة مكلفة ومستنزفة للإمكانات والموارد العربيّة، وبلا نتائج على الإطلاق كما تقول سطور علاقاتنا معهم. وإن كان الحكّام العرب يتبعون سياسة مبادئ، فالأكيد أنّهم أخطاؤا القراءة ورسبوا في الحساب، فـــ"أوكرانيا" التي نمدّ أيدينا لها، اليوم، لم تقدّم للعرب سوى الدّماء والموت بمشاركتها في غزو العراق واحتلاله وصداقتها العميقة بكيان الاحتلال، بينما كان الروس دائمًا قوة دفع لمشروعات التحرّر والتنمية العربيّة، منذ منتصف القرن العشرين، وما تزال هي القوّة العالميّة الوحيدة التي تمنح العرب سلاحًا يستطيع أن يضاهي ويجابه السّلاح الأميركي في اليد الصهيونيّة.
بكلّ تأكيد تمثّل قمّة جدة للعام 2023، سقطة جديدة ومعتادة، سواء من وليّ العهد السّعودي "محمذ بن سلمان"، والذي يقدّم مسوّغات حكمه لواشنطن، والأنظمة العربيّة التي باركت الوقوف بجوار أوكرانيا.. ففي الحقيقة، إنّ العداء لروسيا وحليفتها الكبرى الصين، في خضم كلّ هذه الأزمات العاصفة، خطيئة تاريخيّة ووطنيّة كبرى، قد لا نحتمل تكاليفها، كما أنّ الوقوع بالكامل في براثن التبعيّة للولايات المتحدة هو مقامرة ضخمة بكلّ المستقبل، وقد لا نستطيع تغطية مخاطرها كافّة.