د. يوسف مكي- الخليج الاماراتية-
تنعقد اليوم في العاصمة السعودية الرياض، القمة العربية - الأمريكية الجنوبية، في ظل تحولات جلية في موازين القوى الدولية، بما يشي أن العالم يتجه من نظام الأحادية القطبية، إلى نظام دولي جديد سمته الأساسية، أنه نظام متعدد الأقطاب. ولسوف يلقي هذا التحول بظلاله على العلاقات المستقبلية بين دول العالم الثالث. وبالتأكيد ستكون له انعكاساته المباشرة على العلاقة بين البلدان العربية ودول أمريكا اللاتينية.
لقد تركز الاهتمام الدولي، إبان الحرب الباردة، وما بعدها على العلاقة بين الشرق والغرب، باعتبار دولهما تمثل المركز، وكانت العلاقات بين هذه الدول تستند الى الندية والتكافؤ. أما العلاقة بين الشمال والجنوب، فإنها ابتداء علاقة غير متكافئة.
لقد كان للعلاقة بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وجهان.
الوجه الأول: تمثل في تنافس وصراع عسكري وإيديولوجي واقتصادي وسياسي، بين الشرق الشيوعي بزعامة الاتحاد السوفييتي، والغرب الرأسمالي، بقيادة الولايات المتحدة بدا في مرحلة تاريخية، متكافئاً ومتعادلاً.
والوجه الآخر، تمثل في هيمنة اتخذت أشكالاً استعمارية وعسكرية وسياسية واقتصادية من قبل الشمال الصناعي المتقدم، وبخاصة الرأسمالي منه، على دول الجنوب، التي لم تتمكن بعد من التحرر من إسار تخلفها، والتي تعاني هشاشة في مقاوماتها وضعفاً في هياكلها وتشكيلاتها الاجتماعية.
كان الشرق والغرب في العرف السياسي، كلاهما العالم الصناعي، المتطلع إلى الجنوب كسوق واسع لاستيعاب منتجاته، ومصدر أساسي للمواد الخام، وأيضاً كمخزون بشري رخيص لتلبية حاجة المصانع الأوروبية والأمريكية من القوى البشرية.
في هذين الاتجاهين، نشأت التحالفات والتكتلات والتجمعات الدولية والإقليمية، معبرة بوضوح عن بعد المسافات، وعمق الشروخ وطبيعة الانقسامات بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب. وهكذا تشكل الناتو ووارسو، والسنتو والحلف المركزي، والكومنولث، وجامعة الدول العربية، ومجموعة الدول الآسيوية واللاتينية وكتلة عدم الانحياز ومؤتمر القارات الثلاث، ومنظمة الوحدة الإفريقية والسوق الأوروبية المشتركة، ومجموعة الدول الصناعية الثماني، وكثير من المنظومات والهيئات الأخرى المعبرة عن واقع الحال.
ولذلك لم يكن انعقاد القمة العربية اللاتينية، التاريخية الأولى وغير المسبوقة، قبل عشر سنوات، بالعاصمة البرازيلية مثار استغراب وتساؤل، بل كان السؤال المنطقي هو لماذا تأخر انعقاد مثل هذا المؤتمر لأكثر من خمسة عقود، منذ أنجزت تلك الدول استقلالها السياسي.. سالت فيها مياه كثيرة، وتغيرت خريطة العالم خلالها بشكل دراماتيكي ومثير.
إن ما يجمع البلدان العربية بالقارة الأمريكية اللاتينية، من خصائص سياسية وعلاقات تاريخية، ومن كون غالبيتها قد وقعت ضحية للغزو الاستعماري يفرض على شعوبها وحكوماتها الالتقاء على أعلى المستويات من أجل تحقيق التنسيق والتعاون والتكامل في سياساتها، وبخاصة تلك التي تتعلق بتوحيد جبهاتهم السياسية والاقتصادية في مواجهة مشاريع الهيمنة القادمة من الشمال.
وقد كان ذلك واضحاً في تصريح لأحد المسؤولين البرازيليين، عند انعقاد القمة الأولى، حيث قال معلقاً على الدعوة البرازيلية لعقد القمة العربية - الأمريكية اللاتينية «إن هذه القمة تمثل جزءاً من السياسة الخارجية الجديدة للبرازيل التي تسعى إلى خلق تكتلات؛ للفرار من فلك الولايات المتحدة الأمريكية التي ترغب في إذلال البرازيل».
إن جملة من الأسباب تجعل من مطلب التنسيق والتعاون بين القارة الأمريكية اللاتينية والأمة العربية أمراً محتماً. فهذه البلدان تشاطرنا في جوانب كثيرة.
فهي أولاً ضمن منظومة الدول التي رزحت طويلاً تحت الهيمنة الاستعمارية. وحين تمكنت من تحقيق الاستقلال، واجهت مشاكل كبيرة مستعصية، تمثلت في مخاطر الجوع والفقر وشح المياه، وسيادة الموروث القديم المتخلف، وغياب الهياكل الاقتصادية، وافتقاد القدرات اللازمة لمعالجة تركة الماضي والاندفاع بقوة نحو تحقيق التنمية.
وتشاطرنا أيضاً، الرغبة في الخروج من مأزق التخلف، والاندماج الاقتصادي والحضاري بهذا العصر. وقد وضعتها مقاديرها معنا في عداد دول العالم الثالث، أو ما يعرف مجازاً بصيغة التعويض، بالدول النامية. وهي أيضاً من الدول التي ارتبطت مع العرب في كتلة عدم الانحياز ومؤتمر القارات الثلاث. وبعض هذه الدول، كالبرازيل من البلدان المنتجة للنفط، وتربطنا بها علاقة التنسيق في منظمة الأوبك.
وتواجه كما نواجه نحن تحديات كبيرة، من ضمنها تبعات الدخول في منظمة التجارة الدولية، وتحقيق قدر من النمو والاستقلال الاقتصادي في عالم لا يحترم الضعفاء.
وكان لأمريكا اللاتينية مواقفها المشهودة إلى جانب الحق العربي خاصة إثر العدوان الثلاثي عام 1956، حيث أوصى زعيم الأرجنتين الراحل الجنرال خوان بيرون من منفاه، في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1956، بدعم القضية العربية في مجلس الأمن والمحافل الدولية الأخرى.
كما كان لمعظم بلدانها موقف ثابت وواضح في نصرة نضال الشعب الجزائري للتحرر من الاستعمار الفرنسي. وحين قامت «إسرائيل» بعدوانها على مصر وسوريا والأردن عام 1967، طرحت دول أمريكا اللاتينية مشروع قرار على مجلس الأمن يدعو للانسحاب «الإسرائيلي» الكامل من كافة الأراضي العربية المحتلة مقابل إنهاء حالة الحرب.
وقد استمرت دول أمريكا اللاتينية في استيعاب أعداد كبيرة من الجاليات العربية ودمجتها في مجتمعاتها، وفتحت أمامها الأبواب، وتمكن عدد كبير من أفراد هذه الجاليات من الوصول إلى مواقع متقدمة، وتسلموا أرفع المناصب.
نأمل من القلب أن يشكل انعقاد القمة الجديدة، انطلاقة قوية على طريق تعزيز الروابط الاقتصادية والسياسية والثقافية، بين الدول العربية، وبلدان أمريكا اللاتينية، لما فيه خير لشعوبها وتقدمها ونمائها، وتعزيز قدراتها.