مما لا شك فيه أن الله سبحانه وتعالى فتح نوافذ القياس والاجتهاد في الفتوى ليفتح لخلقه أبواباً واسعةً من التسهيل والمرونة التي تتطلبها متغيرات الحياة وتقلبات الظروف المختلفة على مر القرون والعصور، ومما لا يختلف عليه أحد أن الله جعلها ميزة في الإسلام ليختم به أديانه فيكون صالحاً لكل زمان ومكان، إذاً فالقياس والاجتهاد بابان من أبواب الرحمة من الله على عباده، فهل في عصرنا هذا هي ما زالت كذلك أم أنها أصبحت بكثرة الفتاوى واجتهادات دعاة كُثر بعضهم علماء أجلاء ثقات لا يصدر منه قول إلا بعد بحث ودرس وتدقيق وهنا لا مشكلة، ولكن الإشكال بكثير منهم مجتهد تأخذه الحماسة فيصدر كل يوم فتوى بحث عن حكمها الشرعي في حواري كتب الإفتاء البعيدة، فأتى بها من زمن تلاشت معالمه ليحييها في وقت أصبحت به غريبة وإن كانت صحيحة، ولكنها ليست في السياق المناسب ولا تخدم العصر المناسب، فيكون تأثيرها الذي يخدم الإسلام والمسلم أضعف بكثير من الضجيج والبلبلة التي سببتها!
ما جعلني أحرص على كتابة هذه المقالة إيماني العميق بأهمية دور علماء الدين في حياتنا وتأثيرهم الواضح والعميق على مجتمعاتنا الداخلية كمسلمين، وصورتنا الخارجية أمام العالم بأديانه ومجتمعاته كافة، ففي حياتنا اليومية يحدث أن يلتبس علينا أمراً من أمور الدنيا نحتاج فيه إلى فتوى من شيخ جليل يزيل بفتواه ضباب حجب عنا الرؤى لنسير على الطريق الشرعي الصحيح، كما يحدث أن نصاب نحن بعطش روحي أو تتلبس جيل شبابنا اليافع أو كثير من الجاليات المغتربة التي تدين أو لا تدين بالإسلام اهتمام وفضول للتعرف على سمو ديننا أكثر، فنلقي ويلقون بدلو الشغف وسط بئر علم داعية عميق لنجلب من غزير علمه أجمله وننهل عذب معرفته حد الارتواء.
وخارجياً كلنا يعلم حجم الحروب الشرسة على الإسلام، سواء أكانت حروب سياسية أم إعلامية أم اقتصادية موجهة بالمقام الأول نحو هذا الدين، محاولين بشتى الطرق إلصاق تهمة الإرهاب بإسلام السلام الذي هو من وحشية هذا العصر بريء براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام، فماذا قدمنا نحن له كمجتمعات مسلمة ليكون بالقوة التي تجعله الخيار الأول لكل قلب مضطرب وعقل أنهكه التشتت أو كل من غشت الظلمة قلبه وأراد أن يجليها بنور دين حق يضيء بشمسه كل ظلمة؟
لنحقق ذلك، علينا أن نجفف جداول الفتاوى المنتشرة، ونردم آبار الدعوة التي ضررها أكبر من نفعها، ونجعل سقيا الفتاوى والدعوة إلى دين الله تصدر كلها من أنهار علماء أفاضل ذوي علم غزير وعقول رشيدة، لا تنطق إلا بعد بحث دقيق ولا تقيس أو تجتهد فتفتي إلا بروية وتمهل بعد دراسة عميقة، ولأن المفتي والداعية كالطبيب، خطأ منه قد يزهق روح أو كالمهندس الذي إن لم يكن متمكناً من عمله هدَم البناء على ساكنيه أو كالمحامي الذي إن لم يكن أميناً ذو ضمير يقظ ضاع حق وانتصر ظالم، فلماذا لا يكون هناك تصاريح لا تصدر فتاوى إلا بموجبها، ولا يقوم بالدعوة إلى الإسلام إلا من يحصل عليها من الجهات الرسمية وبجدارة، وألا تصدر فتوى في وسائل الإعلام المختلفة حديثها وقديمها، ولا يظهر برنامج دعوي في القنوات الرسمية أو الفضائية إلا بتصاريح مشددة تمنح لمن هو جدير بذلك فقط، أيضاً لماذا لا يكون هناك عقاب لكل من أصدر فتوى سببت بلبلة في المجتمع أو صدمته بتعسير يخالف أصل التيسير الذي يقوم عليه الإسلام! دين الوسطية والسلام؟
الحديث عن الفتوى والفتاوى حكايا شرحها يطول، إما لاختلاف وجهات النظر فيها، أو لحساسية الموضوع، ولكن لأن هذا الموضوع من أهم المواضيع التي يجب أن تطرح على طاولة النقاش فيجب أن تكون لدينا الجرأة في الأخذ والعطاء به مهما اختلفنا أو اتفقنا، فديننا يستحق، ونحن كلنا بجميع فئاتنا وتوجهاتنا واختلافاتنا دعاة لدين الله العظيم، لذا يجب أن نكون خير من يعكس إشراقه الذي يضيء عتمة الدروب والقلوب.
تغريد الطاسان - الحياة السعودية-