العربي الجديد-
في نهاية العام 2017، عندما كان سعود القحطاني واحداً من أقوى رجالات البلاط السعودي، متمتّعاً بصلاحيات واسعة كمستشار لولي العهد محمد بن سلمان، تواصل بشكل مباشر مع موظفين في شركة البرمجة والهايتك الإسرائيلية NSO، شارحاً لهم عن خطط المملكة الكبرى لاستخدام أدوات المراقبة التي تؤمّنها الشركة، للتجسس على دول وأفراد في مختلف أنحاء الشرق الأوسط وبعض الدول الأوروبية، ذاكراً دَولتَي قطر وتركيا إلى جانب فرنسا وبريطانيا.
وقتها، كان التضييق على المعارضين السعوديين يتزايد ليصل طبعاً إلى ذروته مع قتل الصحافي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. في تلك الفترة إذاً، اختارت السعودية اللجوء إلى شركة إسرائيلية لتدخل بدورها عالم التجسس والحروب الرقمية، وهو القطاع الذي تبلغ قيمته السوقية اليوم 12 مليار دولار.
هذا ما كشفه تحقيق موسّع لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، أعدّه الصحافيون مارك مازيتي، وآدم غولدمان، ورونان بيرغمان، ونيكول بيرلروث، استندوا فيه إلى سلسلة من الأحداث الموثقة والمقابلات مع مجموعة من القراصنة الذين عملوا مع شركات تجسس إلكتروني خاصة لصالح حكومات في مختلف أنحاء العالم.
يرتكز التحقيق بشكل أساسي على فكرة "خصخصة التجسس" وذلك من خلال استعانة الحكومات بشركات خاصة للتجسس على أفراد ودول. فيظهر الشرق الأوسط كمركز رئيسي "لهذه الحقبة الجديدة من التجسس المخصخص" من خلال عدد من الشركات: أولها NSO الإسرائيلية، وتنافسها شركة "دارك ماتر" الإماراتية. أما ثالث الشركات فهي "بلاك كيوب"، التي استعان بها منتج هوليوود هارفي وينستين، المتهم بعشرات جرائم التحرش الجنسي، للتجسس على خصومه، وهي أيضاً شركة إسرائيلية أسسها عناصر سابقون في الموساد. رابع الشركات هي مجموعة Psy-Group الإسرائيلية أيضاً، والتي خرج اسمها إلى العلن بعد اتهامها بالتلاعب بمحتوى مواقع التواصل الاجتماعي أثناء الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي دونالد ترامب من خلال شبكة مكونة من 5000 حساب مزيف، لتحويل الرأي العام لصالح ترامب.
نعود إلى شركة NSO الإسرائيلية التي تأسست سنة 2008، لكن التغير الكبير في خدماتها حصل عام 2011 عندما تمكنت، بحسب "نيويورك تايمز"، من تطوير نموذج أولي من أداة مراقبة متنقلة تدعى Pegasus. وكانت هذه الأداة قادرة على "جمع كميات كبيرة من البيانات التي يتعذر الوصول إليها على الهواتف الذكية من دون ترك أي أثر، بما في ذلك المكالمات الهاتفية، والرسائل النصية، والإيميلات... وأي بيانات مرسلة، باستخدام تطبيقات مثل (فيسبوك)، و(واتساب)، و(سكايب)".
بعد عامين من تطوير "بيغاسوس"، أي سنة 2013، كانت شركة NSO تتقاضى مبلغ 77 مليون دولار من الحكومة المكسيكية التي اشترت هذه البرمجية "للتجسس على تجار المخدرات في البلاد". وقد أشارت الحكومة المكسيكية إلى أنه كان لـ"بيغاسوس" دور بارز في إلقاء القبض على إمبراطور المخدرات المسجون حالياً في الولايات المتحدة، إل تشابو.
لكن سرعان ما بدأ الاستخدام المظلم لهذه البرمجية يظهر، فقد كشفت تحقيقات "نيويورك تايمز" إلى جانب دراسات أجراها "سيتيزن لاب" التابع لجامعة تورونتو الكندية، أن الحكومة المكسيكية استخدمت هذه التقنية للتجسس على ما لا يقل عن 20 صحافياً، ومعهم معارضين للحكومة ومحققين دوليين كانوا يتابعون قضية اختفاء 43 طالباً مكسيكياً بظروف غامضة. وقد استخدمت المعلومات التي جمعتها الحكومة للتضييق وابتزاز المعارضين والصحافيين وتهديد أفراد أسرهم.
بعد الاتهامات التي واجهت الشركة الإسرائيلية، أعلنت هذه الأخيرة أنها أنشأت "لجنة أخلاقية" تنظر في سجلات الزبائن المحتملين في مجال حقوق الإنسان، فأعلنت، بحسب "نيويورك تايمز"، أنها لن تبيع برمجياتها لتركيا مثلاً "لأن سجلها سيّئ في مجال حقوق الإنسان... لكن تركيا تسبق السعودية والمكسيك في التنصيف العالمي لحقوق الإنسان، وهذان البلدان اشتريا البرمجية من شركة NSO"، بحسب الصحيفة.
نعود إلى العالم العربي: المرة الأولى التي سمع فيها العرب بهذه الشركة بشكل واسع كانت في شهر أغسطس/ آب 2016، عندما حاولت السلطات الإماراتية استخدام برمجية "بيغاسوس" لاختراق هاتف الحقوقي الإماراتي أحمد منصور. هذا الأخير اعتقل عام 2017 ثم حكم عليه بالسجن 10 سنوات. لكن محاولة اختراق هاتفه كشفت عن تعاون بين الإمارات وشركة NSO الإسرائيلية منذ العام 2013، عندما اشترت الحكومة الإماراتية للمرة الأولى برمجية "بيغاسوس"، بحسب "نيويورك تايمز". ورغم إدانة حقوقية عالمية لتجسس الإمارات على هاتف أحمد منصور، واصلت "أن أس أو" تعاونها مع الحكومة الإماراتية، وفق ما كشفت تسريبات اطلعت عليها الصحيفة الأميركية، وباعتها برامج تجسس بملايين الدولارات.
نجاح كبير حققته الشركة، إذاً، مع برمجية "بيغاسوس"، ما جعلها تحقق مكاسب مالية خيالية. هذا النجاح، دفع شركات صغيرة أخرى إلى محاولة استنساخ هذه التجربة. ففي نهاية 2017، فوجئت إدارة "أن أس أو" بسلسلة استقالات لموظفيها، فما كان منها إلا استئجار محققين خاصين، راقبوا موظفيها المستقيلين، لتكتشف الشركة أن المستقيلين منها (جميعهم من قدامى عناصر وحدة الاستخبارات الإسرائيلية 8200) موجودون في قبرص، في مكاتب شركة إقليمية تابعة لشركة DarkMatter الإماراتية، إذ جذبت الشركة الموظفين السابقين في NSO، ووظفتهم بمرتبات خيالية لتطوير تكنولوجيات وبرمجيات لصالح الإمارات، ولتنفيذ عمليات قرصنة وتجسس ضد "خصوم الدولة"، في الداخل والخارج.
تتوسّع "نيويورك تايمز" في شرح دور "دارك ماتر"، فتصفها بـ"ذراع للمخابرات الإماراتية التي قامت بقرصنة واختراق عدد من الوزارات في تركيا وقطر وإيران، إلى جانب التجسس على معارضين داخل الإمارات".
تأسست "دارك ماتر" سنة 2015، بعدما وظفت الإمارات مجموعة من العملاء السابقين في "وكالة الأمن القومي الأميركي" (إن إس إيه) و"وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية" (سي آي إيه)، للتجسس على الحكومات والناشطين في مجال حقوق الإنسان والمعارضين في العالم العربي وخارجه، وفق تحقيق موسّع نشرته وكالة "رويترز" في نهاية شهر يناير/ كانون الثاني الماضي. وانتشر اسم "دارك ماتر" في الإعلام قبل شهرين، عندما كشفت العميلة السابقة في الشركة الإماراتية، الأميركية لوري ستراود، لوكالة "رويترز"، مهام الشركة التي تخطت حدود الإمارات والشرق الأوسط، لتطلب الشركة من المبرمجين والعناصر فيها التجسس على مواطنين أميركيين، وهو ما يحقق فيه "مكتب التحقيقات الفيدرالية" (إف بي آي)، حالياً.
وإلى جانب قرصنتها لحواسيب وبرمجيات حكومات، فإن "دارك ماتر" قامت باختراق حسابات "جيميل" و"هوتميل" و"ياهو"، وفقاً لموظفين سابقين فيها، قابلتهم "نيويورك تايمز". وأضاف هؤلاء الموظفون أن الشركة أيضاً استهدفت الحقوقي أحمد منصور بدورها، من خلال اختراق جهاز مراقبة طفله في البيت (Monitor) وذلك للتنصت على الأحاديث التي تدور في منزله. كذلك حاولت الشركة اختراق شبكة الاتصالات الخليوية في قطر، كما واصلت تجسسها على هواتف مواطنين أميركيين ومنظمات دولية سبق أن انتقدت سجل الإمارات في مجال الحريات وحقوق الإنسان.