ذريعة «تشريع الاختلاط»، عند ممانعي سن قانون يجرم التحرش، تشبه طريقة النعامة في الاختباء من الخطر، فهي، أي النعامة، عندما تخفي رأسها في التراب إنما تضع كامل جسدها في مرمى الصياد الذي لن يجد صعوبة ساعتها في قنصها بكل سهولة. دعونا نتألم ونحن نلمس الجرح قليلاً، أو كثيراً، لا يهم، ما دمنا في طريق تشخيص المرض والبحث عن علاج فاعل له. ليسأل كل منا نفسه هذا السؤال ثم ليجب عنه بصدق: في أي المراكز التجارية يشعر الرجل بالطمأنينة على أسرته أكثر، ويضمن إلى حد بعيد أن ألسنة المتجاوزين ونظراتهم وملاحقاتهم فيه لن تطاولهم، وتشعر المرأة فيه بالأمان على نفسها والراحة في التسوق، في أسواق دبي الخالية تماماً من أي مظهر يدل على الرقابة على المتسوقين والزائرين، أم في أسواقنا ومجمعاتنا التجارية في السعودية، التي تعج بأصناف من المحتسبين ورجال الأمن العاملين فيها؟ الإجابة المنصفة، التي لا أفرضها ولكنها الحقيقة، أن دبي ستتفوق بلا جدال. والسؤال الملح هنا، لماذا ينضبط أبناؤنا في الخارج، وفي الداخل يتلبسهم عفريت الانفلات وعدم مراعاة حدود الآخرين في الغالب؟ الجواب بطبيعة الحال هو في القوانين الصارمة التي تقطع سبل التحرش بأنواعها، وتطبق على الجميع بلا استثناء أو تراخ، فالبشر بطبيعتهم ميالون إلى التعدي، ولكن تهذب أفعالهم التشريعات التي تحد من طغيان رغباتهم، وتكبح جماح شهواتهم قوة النظام.

الأيام الماضية كانت حبلى بجملة من الأحداث، دقت ناقوس الخطر من جديد لتوقظ في الأذهان رفضاً جمعياً عارماً لكل الممارسات التي تتنافى مع متطلبات العيش الآمن، الذي ينشده الجميع، وتجدد مطالب حفظ المجتمع بالقانون، وعدم ترك الباب موارباً أمام مثل تلك الممارسات، التي تخجل الكلمات من ذكرها. إمام مسجد ظاهره الورع والتقوى، يؤم المصلين في خمسة فروض يومياً، والذين من المؤكد أن منهم من هو أفضل منه وأعف وأنقى، يقوم بالتلفظ على طفل يركب إلى جانبه في سيارته بألفاظ تخدش حياء «الأسوياء»، والغريب أنه بدلاً من أن يتوراى عن الأنظار خجلاً من قبح ما صنع، فإنه يخرج إلى العلن مبرراً ما قاله بأنه ليس إلا زلة لسان! ليسأل نفسه زلّال اللسان بالقبح، هل يرضى لابنه أن يزل معه أي شخص مهما كانت مكانته في مثل ما زل؟ لكنه بكل أسف فهم طبيعة مجتمعنا السعودي واستوعب طيبته، إذ لا يساورني شك في أن غالبيته كانوا سيحمدون الله أن يسّر لأبنائهم أن يكون من في مثل هيئته جليساً لفلذات أكبادهم، ورفيق درب يسأل الوالدان الله أن يهديهم على يديه ويجنبهم به رفقاء السوء! ولم يعلموا أنهم بإهمالهم وضعف رقابتهم يشاطرون الجاني جريمته، فالثقة في حرم الشيطان شيطان. في جهة أخرى، موقف مشابه له في الخسة؛ شاب أهوج مجاهر، يتأسى في أحد مقاطع الفيديو التي يبثها على أن شهرته حدت من عفوية فحشه، ليعلن بعدها انسلاخه من «بريستيج» الشهرة وعودته إلى بذاءة لسانه، داعياً فيه من أرادت أو أراد من الأطفال إلى ممارسة الدناءات معه! كل ذلك على مرأى ومسمع مواقع التواصل الاجتماعية، التي عجت بالاستياء، وقبل أن تضطلع وزارة العمل والتنمية الاجتماعية بمسؤوليتها تجاه المجتمع وتطالب الجهات الأمنية بكف عبثه واتخاذ الجزاء الرادع لمثله.

ما أود قوله إننا أمام كارثة محتمة، وانفلات أخلاقي لا تحمد عواقبه ما دام حبل الجناة متروكاً على غواربهم، وما دامت القوانين الرادعة تقف على أبواب الهوى عند أناس يعانون رهاب الجديد من أي شيء، بل وينبشون بخيالاتهم عن كل ما يمكن أن ينقل عدواهم إلى مريديهم، الذين أعطوهم صكوك التفكير بالنيابة عنهم، وينظرون بريبة تنضح بمنطلقات التشكيك الخبيث والتخطيط المقيت، لترى أن الكل، بما فيهم الدولة ومن ورائها المطالبون بمثل هذه التشريعات، يفكرون كما يفكرون هم، وبالقدر ذاته من عدم النزاهة في الأهداف.

فيصل العساف- الحياة السعودية-