خالد عباس طاشكندي- عكاظ- أثارت المقاطع المصورة لحالتي التحرش الجماعي في جدة والطائف مؤخرا حفيظة المجتمع السعودي، ووجدت تناولا وردود أفعال واسعة على مستوى الرأي العام وعبر ما يتم تداوله في شبكات التواصل الاجتماعي، وانقسم الجمهور حول تشخيص الأسباب التي تقف خلف «ظاهرة» التحرش، فهناك شريحة ترى بأن الفتيات هن «الجناة» في أغلب الحالات نتيجة للتبرج والسفور ــ على حد وصفهم، وهناك من يرى بأن عدم سن قانون لتجريم التحرش وعقوبة واضحة تنص على محاربة هذا السلوك هو أساس المشكلة، فيما نادى آخرون بضرورة توسيع نشاط وصلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لضبط السلوك العام، وكان من الواضح أن هناك تيارات فكرية مؤثرة ساهمت في تشكيل هذه الآراء التي أفضت بالتالي إلى جدلا عقيم أضاع البوصلة فانحرفت اتجاهات الرأي العام بعيدا عن جذور المشكلة والحلول الواقعية.
حالات التحرش التي حدثت مؤخرا أعادت إلى الأذهان قضية مقطع التحرش الجماعي في «نفق النهضة» بالعاصمة الرياض مطلع العام 2006م، والتي صدرت فيها أحكام مشددة على 10 شبان تراوحت ما بين السجن 12 عاما و600 جلدة و6 سنوات و400 جلدة، إلا أن مستجدات عديدة طرأت على الساحة المحلية في السنوات الأخيرة وسعت دائرة النقاش حول قضايا التحرش وجعلتها أكثر سخونة، خصوصا بعد قرارات تأنيث محلات المستلزمات النسائية في 2012 وسحب مشروع قانون «مكافحة التحرش» في أغسطس الماضي بعد خمسة أشهر من عرضه ومناقشته تحت قبة الشورى؛ بحجة أنه يهيئ لمفهوم الاختلاط بين الجنسين في المجتمع، ولذلك خرجت قضايا التحرش الأخيرة بتفاعل أكبر على الصعيد الاجتماعي، ولكن بحلول أقل من التطلعات في ظل ما أفسده صراع «النخب» والجدل المجتمعي.
وللأسف، انساق الكثير من العامة خلف المطالبة بقانون «مكافحة التحرش» باعتباره حلا جذريا للحد من حالات التحرش، وليس القصد هنا انتقاد سن مثل هذه القوانين، ولكن يجب التوضيح بأن الهدف من إقرار هذا القانون هو «تقنين» الأحكام والحد من الاجتهاد الشخصي والتباين في العقوبات التعزيرية التي يقررها القضاة في هذا النوع من الجرائم، وبالتالي فإن إقرار قانون «مكافحة التحرش» هو «تنظيم» للمسائل القضائية وليس حلا قاطعا للحد من انتشار التحرش، وهذا بالإضافة إلى أن الأحكام التي صدرت في قضايا التحرش الجنسي، وبخاصة القضايا التي سلطت عليها الأضواء الإعلامية بكثافة مثل قضية «نفق النهضة» كانت مغلظة والمفترض أنها رادعة، وهي أشد بأسا من سلم العقوبات التي طرحت في مواد وفقرات قانون مكافحة التحرش الذي استعرض في مجلس الشورى العام الماضي، ولا تتجاوز عقوباته السجن لمدة عام مع إيقاع غرامة مالية.
أما بالنسبة للآراء التي تطالب بتوسيع نشاط وصلاحيات هيئة الأمر بالمعروف باعتبارها الحل الأمثل للحد من التحرش، فهذا النوع من الطروحات لم يكن منطقيا أيضا؛ لأن من صلب مهام الهيئة وصلاحياتها التواجد في الأماكن العامة لضبط السلوك ولآداب العامة ومعاقبة المخالفين، كما أن الميزانية المرصودة للهيئة تفوق المليار و600 مليون ريال سنويا، ولديها أكثر من خمسة آلاف موظف، ومع ذلك تطورت حالات التحرش لتصبح «ظاهرة» متنامية بكل المقاييس وتدل على انحدار في السلوكيات والقيم والأخلاق، وتكفي جولة في الأسواق والمولات للتأكيد على حجم الظاهرة.
لقد دقت قضايا التحرش الجنسي ناقوس الخطر منذ عدة سنوات، تزامنا مع التصاعد السنوي في عدد القضايا المنظورة في القضاء، وفي 2011م أشارت دراسة استطلاعية أعدتها مؤسسة رويترز ــ إبسوس إلى أن المملكة تحتل المرتبة الثالثة خلف الهند والصين ومن بين 24 دولة من جميع أرجاء العالم في قضايا التحرش الجنسي في مواقع العمل، وكشفت الدراسة عن أن 16% من النساء العاملات في المملكة يتعرضن للتحرش الجنسي من قبل مسؤوليهم في العمل، وهي نسبة مرتفعة جدا مقارنة بالدول الغربية، إذ تصل نسبة التحرش ــ وفقاً للدراسة ــ 5% في ألمانيا، وفي بريطانيا 4%، وإسبانيا 6%، والسويد في المرتبة الأخيرة بنسبة لا تزيد على 3%.
وعلى صعيد مؤشرات التحرش الحالية، فقد أكدت وزارة العدل أن المحاكم الجزائية تستقبل ما يعادل 6 حالات تحرش يوميا، وهي حالات تحرش بالنساء واستدراج أحداث، كما تؤكد أيضا غالبية الدراسات الوطنية الصادرة مؤخرا على ارتفاع نسبة التحرش الجنسي بالأطفال في المملكة، وأشارت هذه الدراسات إلى أن طفلا واحدا من بين كل 4 أطفال يتعرض للتحرش الجنسي، وأن 49.23 % ممن هم في سن 14 من إجمالي عدد السكان تعرضوا للتحرش الجنسي.
ولذلك.. القضية أكبر وأعقد من الجدل السطحي والعقيم المثار في شبكات التواصل الاجتماعي، فنحن لدينا مشكلة أعمق في مسألة تطبيق «الأخلاق» الإسلامية وتعليمها، خصوصا أن جل تركيز المنابر الدينية يصب في المسائل الفقهية والعقدية والفتاوى على حساب بناء القيم والأخلاق والسلوكيات، فنسأل الله أن لا تنطبق علينا مقولة الإمام الأوزاعي: «إذا أراد الله بقوم شرا ألزمهم الجدل، ومنعهم العمل».