لم تكن منطقة الشرق الأوسط مجالا للأحداث والتغييرات السياسية الكبرى فحسب، بل كانت - ولا تزال - مسرحًا لظهور الحركات المتطرفة التي تمكنت من اجتذاب أعداد كبيرة من الشباب من مختلف الجنسيات، أغلبهم من الطلاب الجامعيين الذين تم الكشف عن هوية أغلبهم عقب محاولاتهم القيام بعمليات فاشلة أو ناجحة، على حد سواء.
وثائق ومراجعات
واعتمادًا على أبحاث أكاديمية، ووثائق حكومية، ومواقع المنظمات المتطرفة عينها، ولا سيما البيانات الببليوجرافية لعينة وصلت إلى 497 من المتطرفين، إضافة إلى مسح الصحف الشرق أوسطية في الفترة من 2000 إلى 2010، وكذلك مراجعة الحالات التي نظر فيها القضاء في دول غربية "التي ثبت فيها تورط الأفراد في العمليات الإرهابية، واستبعاد من لم يتم التأكد من تورطهم، بما في ذلك المحتجزون في معتقل جوانتانامو" - تمكن الباحثان ديجو جامبيتا وستيفان هيرتوج، بحسب المركز القومي للدراسات، من الوصول إلى البيانات التعليمية لـ 335 من العينة محل الدراسة، ووجدا أن 28 منهم أتموا تعليمًا أقل من المرحلة الثانوية العامة، في حين أتم 76 منهم التعليم الثانوي، والبقية "231 شخصًا" أتموا أو مسجلون في التعليم العالي، ومنهم من تلقى تعليمًا في دول غربية.
بالنظر إلى التخصصات التعليمية لأولئك المسجلين في التعليم العالي أو أتموه، فقد توافرت البيانات حول هذه التخصصات لنحو 207 مبحوثين فقط، منهم 93 تخصصوا في الهندسة، و21 في الطب، ونحو 12 مبحوثًا في دراسة الاقتصاد والأعمال، في حين تخصص ثمانية منهم فقط في الرياضيات والعلوم، والباقون في الدراسات الإسلامية.
بعبارة أخرى، خَلُصَ الباحثان إلى ملاحظة لافتة للانتباه مفادها أنه: على الرغم من اختلاف الخصائص البيوجرافية والخلفية والحالة الاجتماعية والتاريخ الوظيفي للمنتمين إلى حركات الإسلام السياسي المتطرف العنيف، فإن غالبية المنضمين الذكور في الشرق الأوسط كانوا دارسين للتخصصات النخبوية التي تشمل الطب والهندسة والعلوم، مقارنة بالعلوم الاجتماعية والآداب والفنون. ومن بين التخصصات العلمية، ترتفع نسبة تمثيل تخصص الهندسة على ما عداها من التخصصات الأخرى المذكورة، وهو ما يحاول الباحثان تفسيره في هذا الكتاب. ويُمكن الاستدلال على العلاقة بين الإسلام الراديكالي وبين تخصص الهندسة بعدد من الشواهد على النحو التالي: من بين منفذي هجمات "11 سبتمبر 2001"، كان هناك 25 مهندسًا. وفي مصر ظهرت جماعة التكفير والهجرة عام 1969 على يد مؤسسها شكري مصطفى الذي كان يعمل مهندسًا زراعيا. وفي عام 1974 ظهر تنظيم الفنية العسكرية على يد صالح سرية، وهو أيضًا مهندس. أما خارج حدود الشرق الأوسط، فتجد هذه العلاقة الارتباطية دليلا لها في تكوين الجماعة الباكستانية Laskar-e-Taiba التي ظهرت في 1987، وكذلك الجماعة الإسلامية في جنوب شرق آسيا. وربما كانت المملكة العربية السعودية هي الاستثناء الشرق الأوسطي الذي لا تنطبق عليه هذه القاعدة، أي ارتباط دراسة الهندسة بتبني أفكار الجهاد العنيفة والمتطرفة فيها. وفي المقابل، كان للجماعات المتطرفة ذات المرجعية الشيعية نصيب من الظاهرة. ففي إيران، لعب محمود أحمدي نجاد دورًا محوريا في الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وكان خريج الهندسة. أما في لبنان، فقد استطاع حزب الله - ذو المرجعية الشيعية - أن يجتذب نحو ألفي مهندس ومعماري في عام 2006، فيما عُرف باسم "جهاد البناء".
ثمة مستويان لتفسير ظاهرة انتشار خريجي الهندسة بين صفوف المجاهدين المتطرفين. يرتبط المستوى الأول بأن الأفراد الذين يتخصصون في الهندسة تظهر لديهم ميول للقتال. غير أن هناك تساؤلات أكثر عمقًا مرتبطة بهذا المستوى من التفسير، من قبيل: لماذا خريجو الهندسة أكثر ميلا من الطلبة الذين لم يتموا تعليمهم بعد؟ ولماذا خريجو الهندسة من دون خريجي التخصصات الأخرى؟ أما المستوى الثاني للتفسير فيرتبط بأن المنظمات المتطرفة هي التي تعمد إلى تجنيد بعض التخصصات أكثر من غيرها بما يسهم في تحقيق أهدافها. فقد وُجد أن أغلب التنظيمات المتطرفة والعنيفة تسعى إلى ضم أفراد على درجة عالية من التعليم، خاصة عندما يقترن هذا التعليم بارتفاع المهارات التقنية للأفراد. بيد أن هذه المقولة غير قاطعة، فعلى سبيل المثال، أشار الباحث مارك ساجمان Marc Sageman من خلال دراسة على عينة قام بدراستها عام 2004 إلى أن "تنظيم القاعدة" يقبل نحو 10-30 في المائة من المتدربين في صفوف التنظيم الرسمي، إلا أن هذا في حد ذاته لا يفسر العلاقة بين مستوى التعليم وبين المهارات التي تسعى المنظمة إلى توافرها في المتدربين، نظرًا لوجود عدد من المحددات التي قد ترجح ثبوت العلاقة أو انتفاءها، ومنها: استراتيجية المنظمة في التعبئة والتجنيد، وما إذا كانت المنظمة تفضل ارتفاع مستوى التعليم والمهارات التقنية للأعضاء المنضمين، أم أنها تسعى إلى زيادة مستوى العضوية. من ناحية أخرى، يمكن التشكيك في المقولة التي يعتمد عليها المستوى الثاني للتفسير اعتمادًا على آلية اختيار المنظمات المتطرفة والعنيفة لأعضائها. وهناك طريقتان للنظر في الأمر؛ الأولى: أن المنظمات الراديكالية تستخدم أسلوب الاختيار المتعمد، بحيث يرتبط اختيار العضو بدرجة مهاراته التقنية. وفي هذا الصدد، عمد كل من ديجو جامبيتا وستيفان هيرتوج إلى التركيز على التخصصين اللذين قد يرتفع فيهما طلب المنظمات الإسلامية المتطرفة على المهندسين أو ذوي التخصصات التقنية العالية، وهما: صناعة القنابل، وإدارة الاتصالات. فالتنظيمات الإسلامية المتطرفة تسعى إلى تجنيد أفراد ذوي مهارات تعليمية تمكنهم من تصنيع القنابل والإبقاء على اتصالاتهم سرية، إلا أن هناك خمسة أسباب في المقابل تقلل من القيمة التفسيرية لهذه الخلاصة؛ إلى الحد الذي يسمح بالتخلي عن الربط بين القدرات التقنية للأفراد وبين ظاهرة ازدياد عدد المهندسين بين صفوف المجاهدين المتطرفين. بادئ ذي بدء، ذكر أحد الملفات الاستخباراتية البريطانية - بحسب المؤلفين - أن الجماعات الراديكالية تستهدف الشباب الأقل مقاومة لأفكارهم، والذين تسهل السيطرة عليهم، وإقناعهم بالحجج التي تسوقها هذه المنظمات، شرط أن يتحلى هؤلاء الأفراد بذكاء حاد وميل للإذعان للسلطة. بعبارة أخرى، ثمة مجموعة من الصفات التي يجب توافرها في الأعضاء الذين يتم تجنيدهم في الجماعات المتطرفة، وهي: الذكاء، السمع والطاعة، الصبر، الالتزام، الحذر، دقة الملاحظة والقدرات التحليلية العالية؛ وهو ما يؤهل الثقة الشخصية والإخلاص لتصبح سمات أكثر أهمية من المهارات التقنية في مرحلة التعبئة. أما السبب الثاني لاستبعاد هذه الخلاصة، فهي أن صناعة القنابل هي وظيفة صغيرة ومتخصصة داخل التنظيم، وهو ما يجعل زيادة عضوية المهندسين فيها غير مبرر... يرتبط بذلك السبب الثالث لاستبعاد مقولة الاختيار المتعمد من جانب التنظيمات الجهادية، فطبيعة الهجمات أو العمليات التي تقوم بها هذه التنظيمات الجهادية المتطرفة لا تتطلب درجة عالية من الخبرة أو التعقيد. أما السبب الرابع فهو انتفاء وجود علاقة بين زيادة عضوية المهندسين وزيادة القوة التدميرية للجماعات المتطرفة. وفي المقابل، يرتكز السبب الخامس والأخير على عدم ارتباط توافر التعليم المهاري والتقني - مثل تخصص الهندسة - بالكفاءة العملياتية للعضو المنضم، ويسوق الباحثان مثالا على ذلك بالعمليات الفاشلة التي قام بها مهندسون. إذن، فإن المجال مفتوح للنظر في مدى صحة تفسير المستوى الثاني، وهو أن التنظيمات تختار أعضاءها بشكل عشوائي اعتمادًا على شبكاتها الاجتماعية المنغلقة. ونظرًا إلى أن هذه المنظمات تحافظ على سريتها كجزء أساسي من أسباب بقائها؛ فإن الإعلان عن حاجتها إلى أفراد أو أعضاء جدد يتم في إطار العلاقات الاجتماعية الموجودة سلفًا. وباختبار هذه الفرضية، ثبت وجود علاقة ارتباطية بين ارتفاع تمثيل الدرجات الجامعية العليا وتخصص الهندسة، وهو ما انطبق على التنظيمات الجهادية في شمال إفريقيا، وجوب شرق آسيا، وتلك المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط.
قابلية العقلية الهندسية للتطرف
في ختام الدراسة، يفسر الباحثان ارتفاع قابلية دارسي وخريجي الهندسة - على وجه التحديد - للتأثر بالفكر الراديكالي اليميني مقارنة بالتخصصات الأخرى بتركيبة العقلية الدارسة لهذا التخصص التي تتأثر بطبيعة موضوعاته، لتتفاعل مع الطبيعة المتدينة والمحافظة بشكل يجعل الفرد أكثر ميلا لتبني الاتجاهات الراديكالية والمتطرفة.
وعلى الرغم من أن هذه العلاقة لا يمكن تعميمها على بقية الدول المتقدمة، حيث ارتبط التعليم المهاري والفني بتبني وجهات نظر أقل تدينا، وأكثر محافظة "وإن كانت نسبة الزيادة ليست ذات دلالة إحصائية تذكر"؛ إلا أن النتائج الإحصائية تدل على أن التفاعل بين السمتين "التدين والمحافظة" له دلالة إحصائية بالنسبة إلى تخصص الهندسة أعلى من التخصصات المناظرة.
إذن، ما المصادر التي تؤثر في تشكيل عقلية دارسي الهندسة - بخلاف دراسة موضوعات الهندسة - وتجعلهم أكثر ميلا إلى تبني الفكر المتطرف؟ وفي هذا السياق أشارت دراسات سابقة إلى أن دراسة الهندسة تجعل الخريجين أقل قدرة على استيعاب الطبيعة الارتباطية المتداخلة التي تتسم بها العمليات والعلاقات السياسية والاجتماعية، وبالتالي فهم أقل قدرة على التعامل مع العالم المحيط باعتباره نتيجة تفاعلات متزامنة من عمليات معقدة. وفي المقابل، يفترض هؤلاء الطلاب أن كل ما حولهم له طبيعة ميكانيكية "عقلانية" أقرب إلى ما هو عليه الحال في طريقة عمل الماكينات والآلات، بما يجعلهم أكثر تقبلا لفكرة واحدية النظام إلى حد قولبته. أضف إلى ذلك أن طبيعة الدراسة لا تقترب من المعتقدات الدينية بأي شكل من الأشكال، وهو ما يجعل الدارس - على الأقل طوال فترة دراسته، التي تمتد إلى خمس سنوات - غير معرض للوقوف أمام النصوص الدينية والتفكير فيها بشكل نقدي؛ وهو ما ينتج في النهاية شخصًا أكثر تقبلا للنص، وأكثر قابلية للتأثر بالحجج التي تقدمها الجماعات المتطرفة.
الاقتصادية السعودية-