يعيش العالم الإسلامي ما عاشته أوروبا قبل ثلاث مئة سنة، خصوصاً تلك الحروب التي قامت بين الكاثوليك والبروتستانت، ولم تتخلص أوروبا منها وتتقدم إلا بوسيلتين مهمتين؛ الأولى هي تحرير العقل ليكون قادراً على التفكير والنقد، فقد هيأ الله لأوروبا فلاسفة شجعانا استطاعوا أن يوجهوا النقد إلى الكنيسة وما كانت تفرضه من قيود على الفكر الذي يهدد سلطتها، وهيأ الله للفلاسفة قادة متنورين احتضنوهم وآزروهم وحموهم وخصوصاً في ألمانيا مما مكن هذا الفكر من الانتشار حتى أنقذ أوروبا من حروبها الطائفية، ومن أهم من نادى بتحرير العقل مارتن لوثر كينج في منتصف القرن السادس عشر حيث ذكر أنه لا تسامح ولا تعايش داخل الوطن الواحد إلا بالإيمان بحرية المعتقد، وجون لوك في القرن السابع عشر في إنجلترا حيث أصدر كتابه الشهير (الحكم المدني) في وقت كانت تعيش فيه إنجلترا صراعا سياسيا طاحنا شبيها بما يعيشه العالم الإسلامي اليوم، فقد نادى بأن حرية الرأي في البرلمان مكفولة للجميع، وألا تفرض ضرائب جديدة أو تكوين جيش جديد إلا بموافقة البرلمان، ولا تفرض القوانين أو تلغى إلا بموافقة البرلمان.
والوسيلة الثانية لنهضة أوروبا واستقرارها هي العامل الاقتصادي وسببه الأخذ بخيار العلم وتطبيقاته وما توصلت إليه مراكز الأبحاث والتطوير من نتائج مبهرة أخذت طريقها إلى التطبيق والتصنيع على نطاق واسع وعلى مستوى العالم، وكل الدول التي تبعتها في التقدم سواء في الشرق أو الغرب أخذت بهذين الخيارين.. واليوم يعيش العالم الإسلامي مآسي كثيرة وبحاجة إلى إصلاح ثقافي يقوده التعليم، يعيد إلى الدين بساطته وتعايشه مع الآخر المختلف ويعيد رسم الأولويات بحيث يركز على المعاملات والقيم أكثر من تركيزه على العبادات، فالمعاملات هي ما يحتاجه الناس في هذا الكوكب ليعيشوا في وئام وسلام، وإصلاح التعليم لا يقتصر على ذلك، بل يتعداه إلى نواح عديدة في حياتنا الشخصية والعامة، إصلاح التعليم يعني الاهتمام والتأثير على النواحي الآتية:
أولاً- الأمن هو أكبر المستفيدين من إصلاح التعليم، فالتطرف والإرهاب لا يواجه بالعمليات الأمنية وحدها ولا حتى بالمناصحة، ذلك أن تأثيرها محدود مقارنة بتأثير التعليم الجيد الذي يحصن الطلبة ويحرم المتطرفين من سهولة تجنيدهم أعضاء جددا، ذلك أن أهم ما يتعلمه الطالب يجب أن يكون التفكير الناقد الذي يجعل الطالب قادراً على التحليل والمساءلة والشك فلا يكون نهباً لتجار الإرهاب والأوهام والمخدرات، إصلاح التعليم يقطع الطريق على من يحاول نشر الكراهية ضد المختلف ومن يحاول أن يمنع الانفتاح على الآخر.. إصلاح التعليم يعني تأصيل الحوار للمزيد من التعايش والحرص على وحدة الوطن ومعاملة الجميع سواسية في الحقوق والواجبات.
ثانياً- إصلاح التعليم يعني قوة الاقتصاد وتنويع مصادر الدخل وضمان نجاح رؤية المملكة 2030 التي أساسها الاعتماد على الإنسان وما ينتجه عقله وساعداه.. إصلاح التعليم يعني تحويل المنهج من حفظ المعلومة إلى تطبيقها على أرض الواقع، وهو الكفيل بانتشال الأسر الفقيرة من الفاقة والمرض إلى اللحاق بركب الطبقة المتوسطة، لا شيء يساعد الأسرة ويرسم لها طريق الغنى كنجاح أحد أبنائها كطبيب ناجح أو مهندس بارع أو عالم يشار إليه بالبنان، التعليم الجيد يمنع تسرب الطلبة من المدارس في سن مبكرة، ذلك أنه يحيل التعليم إلى متعة ولعب وفنون يعشقها الطلبة ومن خلالها يتعلمون الكثير من قيم التعاون والتآزر والجد والمثابرة.. التعليم الجيد يعني أن المواطن ليس بحاجة إلى الاستدانة لإرسال أبنائه إلى المدارس الأهلية فالتعليم العام يصبح بنفس مستوى المتعة والجودة.
ثالثاً- إصلاح التعليم يعني أن تتعاون وزارة الصحة ووزارة التعليم لتطبيق الرعاية الصحية الأولية ووسائل الوقاية على الطلبة والطالبات حتى ننشئ جيلاً يتمتع بالنشاط والصحة بعيداً عن الأمراض الناشئة بسبب نمط العيش الذي فرضته الحياة الاجتماعية الراهنة ووسائل التقنية الحديثة فأنتجت السمنة وما تحتضنه من أمراض خطيرة، والتدخين وما يرتبط به من أمراض السرطان وغيرها.. المدارس تمثل البيئة المناسبة لتطبيق الوقاية بتكاليفها البسيطة مقارنة بالأمراض المستعصية التي سببها الإهمال والجهل واللامبالاة.. إن من يزور أقسام الطوارئ في المستشفيات وما تستقبله من حالات سببها الحوادث والأمراض المستعصية التي تكتشف متأخرة يعلم مدى ما يمكن أن يساهم فيه التعليم من تقليل لتلك الحالات.
إصلاح التعليم مهمة وطنية ملحة لا تقبل التأخير وهي بحاجة إلى عناصر أساسية أهمها الإرادة السياسية وإعادة الهيكلة لمراحل التعليم ومحتواه بشكل عام، وتعاون الجهات الأخرى معه لإنجاح الإصلاح وليس وضع العصا في دواليبه.
عبدالله عبدالكريم السعدون- الرياض السعودية-