أ. د. عبدالله العبدالقادر- اليوم السعودية-
مما لا شك فيه أن للمجتمع السعودي كيانه المستقل وشخصيته ذات الخصوصية التي تجعل منه حالة مستقلة ليس بين شعوب الأرض بل حتى بين مجتمعات الجوار العربي والإسلامي، وهذه حقيقة لا يغالط فيها إلا من في قلبه (ما في قلبه) مما نستشعره أحياناً، ولن نلقي له بالاً، وتبعاً لهذا فإن هناك من المتعلقات والمعطيات ما يفرض حالة خاصة للمواطن السعودي، وهذه الحالة الخاصة فريدة في تاريخ الدول والمجتمعات تَخَّلقت من واقع العروبة والاسلام والصفاء العقدي الذي ننعم به ولله الحمد، بل وحدد معالمها؛ كوننا نحتضن مهبط الوحي في مكة المكرمة ومدفن الجسد الشريف لسيد ولد آدم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام والأجيال الأول التي نشرت دين الإسلام في بقاع العالم.
وهذه الخصوصية تكون أشد ما تكون عند الحديث عن المرأة السعودية التي تفرض عليها لزاماً عجلة الحياة الحديثة مواكبة الركب العالمي في معادلة صعبة جداً تستلزم الحفاظ على كيان المرأة السعودية بدينها وعروبتها وأصول جيناتها، التي لا تقبل إلا واقع العفة والصون وكل ما يحفظ كينونة المرأة المسلمة. ولقد اصطدم هذا الواقع الذي يفرض نفسه فرضاً برغبة المرأة السعودية الحفاظ على هذا الإرث التليد وفي الوقت نفسه اضطرارها للانقشاع من جذورها للبعثات التعليمية التي انتشرت في السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق في التاريخ، حيث لا تكاد تجد حيا سعوديا دون تسمية عدد من أبنائه في حالة ابتعاث، وهذا الواقع الصعب أحرج أشد الحرج المرأة السعودية أو بالتحديد بناتنا وأخواتنا الراغبات في التخصصات المختلفة، ويبدو أن الأمر بلغ حد الإزعاج في فتح الباب على مصراعيه بطريقة مبالغ فيها، حيث أُعتُبِرَ الابتعاث الخارجي مطلبا في حد ذاته، وهو أمر ألقى بظلاله الباهتة على نفوس الراغبات في الدراسات العليا وأسرهن ومجتمعاتهن، وخصوصاً أن هناك عددا كبيرا من التخصصات في داخل المملكة يُغفل عنها ويُطلب الابتعاث الخارجي وهو أمر غير جيد، إذ ندعو دائماً وأبداً أن يكون الابتعاث حتى للرجل محصورا على التخصصات التي لا تتوفر داخل كيان الجامعات السعودية، ولقد أحدث هذا الأمر ألماً في نفوس أبناء المجتمع السعودي، وبالأخص أولياء أمور بنات الوطن الراغبات في الدراسات، وبالأخص الدراسات العليا والمتخصصة، مما دعا مجاميع منهم -وبدوافع العاطفة الدينية في هذا الشأن- للتواصل مع عدد من أعضاء هيئة كبار العلماء وبسماحة المفتي شخصياً، وهو الأب الروحي لنا جميعاً، والذي يُرجى من سماحته الكثير في شأن الدين والدنيا، وهو الدور الذي مارسه بعظمة الدين وهيبة الشرع الحنيف علماء الأمة على اختلاف مسمياتهم، والمرجو من سماحته في حقيقة الأمر كثير، لا سيما في دولة مثل المملكة العربية السعودية، دستورها القرآن وعماد قوانينها وأحكام عمل الدولة هو الشرع الحنيف، والدور الذي مارسه أسلاف سماحة مفتينا، حفظه الله وأدام عزه بعز الدين وحكم آل سعود، هو دور رئيس في مفاصل حياتية، وكلنا يتناقل قوة الشيخ ابن إبراهيم في الحق، وكذلك الشيخ ابن باز -رحمهم الله رحمة واسعة-، والأمر في رأينا لا يُضيق بأمور الدين فقط، بل يتسع لشأن الحياة كاملة لخضوع كل شؤون حياتنا ولله الحمد لحكم الشرع الحنيف.
وفي مسألة ابتعاث بناتنا، هب سماحة مفتينا الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ -حفظه الله- بالتواصل المباشر مع خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- ومن ثم مع وزير التعليم الدكتور عزام الدخيل الذي استجاب للرغبة الأكيدة لقيادة هذا البلد السياسية والدينية، حيث تم استصدار تنظيم جديد، يلزم الجامعات السعودية بقبول طلبات الابتعاث الداخلي للتخصصات الموجودة داخل الجامعات السعودية، وقد يقول قائل إن هذا أمر بديهي ولا يحتاج لأمر أعلى لصناع القرار في الدولة، وأقول إنه ليس كل بديهي معمول به، ولكن الأمر يفرحنا في نهاية المطاف، وخصوصاً أن التنظيم الجديد فصّل أنه في حالة عدم توفر التخصص داخل المملكه تُعطى الأولوية للجامعات في العالم الإسلامي مع تشجيع الجامعات السعودية لتأسيس قواعد تعاون مشترك مع الجامعات المتميزة مع عمل إشراف مشترك ببن الجامعتين وتقييم التجربة، وياليت شعري أن يكون هذا التنظيم باب خير لتنظيمات أخرى داخل جسد نظام الدولة وخصوصاً في الوزارات الخدمية التي تمس حياة الناس، وبالأخص في المظالم التي تقع على كاهل موظف الدولة أو المواطن على حد سواء، وهو أمر يجب أن يؤخذ بكل هدوء ورحابة صدر، فالهدف الأسمى هو خلق بيئة من العدل وجو من الرضا داخل كيان الوطن، تحت مظلة أولياء الأمر، وهم حماة الدين ودعاة الشريعة السمحة، وأجزم بأن دخول روح الشرع لجميع تنظيمات الدولة فيها بركة عظيمة وخير وفير، ولا يشكك في هذا إلا المرجفون، فبروح الذكر تنقى النفوس وتطمئن القلوب، وفصل القول في هذا المقام، أن تدخل سماحة المفتي قد أثلج الصدور وأزال كدراً عانينا منه طويلاً، وأعناقنا لا تزال تشرئِبُ لمثل هذه الروح الحانية من سماحته.