د. أحمد عبد ربه- الشروق المصرية-
بعد خمس سنوات من الثورات العربية، فإن موقف دول الخليج العربى ظل من أهم العوامل التى أثرت على تطور ومآلات الحراك الجماهيرى فى باقى الدول العربية. منذ اللحظات الأولى لهروب بن على وتنحية مبارك فإن انقساما واضحا ظهر جليا بين موقف دول الخليج تجاه دول الثورات عموما وتجاه مصر باعتبار وزنها الإقليمى بشكل خاص.
فبينما اتخذت السعودية والإمارات مواقف أكثر صرامة من الثورات العربية وخصوصا فى ظل اكتساح الإسلاميين عموما وجماعات الإخوان خصوصا لنتائج الانتخابات التى جرت فى مصر وتونس، وبسبب التخوف من مد النفوذ الإيرانى استغلالا للثورات فى البحرين واليمن.
من ناحية لم ترْتح السعودية والإمارات للصعود الإخوانى بسبب اعتقادهما بأن ذلك من شأنه أن يشكل تهديدا داخليا فى ظل انتشار الإخوان فى كلتا الدولتين منذ الستينيات والسبعينيات، وخصوصا فى مجال التدريس والدعوة والعمل الأهلى والتكافلى.
ومن ناحية أخرى فقد ارتأت كلتا الدولتين أن ايران هى المحرك للمظاهرات فى البحرين وأنها تشكل تهديدا فى الساحة اليمنية حال انهيار سلطة على عبدالله صالح فى اليمن بدون ترتيب مسبق.
من هنا كان التدخل العسكرى الحاسم فى الأولى، والتدخل السياسى لترتيب مخرج آمن لعبدالله صالح بحيث يتم الانتقال بطريقة لا تشكل تهديدا للسعودية والإمارات. إذا ما أضفنا إلى ذلك أن زيارة الرئيس المصرى إلى إيران فى أغسطس 2012 قد شكلت هاجسا لدى صناع القرار فى السعودية والإمارات، فيمكننا فهم موقف الدولتين الصارم تجاه الثورات.
على العكس من ذلك، فإن قطر قد اتخذت مواقف مختلفة تماما. حيث رأت أن وصول الإسلاميين إلى السلطة فى مصر وتونس وربما فى دول عربية أخرى سيشكل فرصة ذهبية لبسط نفوذها مقارنة بمحدودية مساحتها؛ خاصة أن السياسة القطرية اعتمدت على دعم جماعات الإسلام السياسى قبل الثورات بسنوات وها هو وقت الحصاد قد حان!
سبب ذلك التباين بين الموقف القطرى من ناحية وبين الموقف السعودى والإماراتى من ناحية أخرى، هو بعض التوتر القائم بينهما وخصوصا بعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسى وجماعة الإخوان المسلمين من حكم مصر فى يوليو 2013، حتى وصل الأمر إلى ذروته مع استدعاء دول البحرين، الإمارات، والسعودية لسفرائهم لدى الدوحة للتشاور فى مارس 2014 قبل أن يتم تهدئة الأجواء لاحقا.
* * *
بعد دعم قوى على كل المستويات السياسية والاقتصادية، فإن تغيرات تدريجية بدأت تطفو على السياسات الخليجية تجاه مصر وخصوصا مع تولى الملك سلمان الحكم فى المملكة قبل عام تقريبا من الآن.
فى العام الأول من حكم الملك سلمان فإن تغيرا فى التوجهات السعودية فى المقام الأول، بالإضافة إلى بعض التطورات الإقليمية فضلا عن الوضع المصرى الداخلى قد دفع المحللين إلى التساؤل عن تغير ما يمكن ملاحظته فى سياسة دول الخليج تجاه مصر.
فمع كثرة التحليلات التى تناولت تقييما للعام الأول من حكم الملك سلمان، فقد لفت نظرى ذلك التحليل الذى قدمه ماثيس سيلر للمؤسسة الألمانية للشئون الدولية والأمنية ونشر على صفحتها الرئيسية، حيث رصد اعتمادا على مصادر لم يسمها تعمل بالقرب من الدوائر السعودية والقطرية والإماراتية أربعة أسباب تدفع الخليج إلى تغيير سياساته تجاه مصر وهى على النحو التالى:
أولا: تغير الموقف السعودى تجاه الإخوان
فمن الواضح خلال العام الأول من حكم الملك سلمان أن هناك منهجا مختلفا تجاه جماعات الإخوان المسلمين يراه المراقبون:
أولا بسبب تزايد التهديد الإيرانى وخصوصا بعد الاتفاق النووى مع الغرب، وخشية المملكة أن يتراجع دورها لصالح عدوها الإيرانى ورغبة الملك فى إبقاء التحالفات السنية قريبة منه أو على الأقل غير معادية له.
وثانيا بسبب سياسة الملك تجاه اليمن حيث الاعتماد على حزب الإصلاح لمواجهة الحوثيين. ويمكن رؤية ذلك التغيير على عدة مؤشرات أهمها التقارير التى تناولت لقاءات متعددة لمسئولين رفيعى المستوى فى المملكة مع بعض رموز جماعات الإخوان والفاعلين السياسيين المرتبطين بها مثل الشيخ راشد الغنوشى والقيادى الحمساوى خالد مشعل وصولا إلى قيام السفير السعودى بالدوحة بدعوة الشيخ القرضاوى إلى العيد الوطنى السعودى فى أكتوبر 2015.
ورغم أن الإمارات لم تغير موقفها تجاه الإخوان المسلمين مثل المملكة إلا أن ضعف جماعة الإخوان بعد الضربات العنيفة التى تعرضت لها فى مصر، وهيمنة التهديد الإيرانى من ناحية اليمن، فضلا عن مشاركة الإمارات بقوة عسكرية فى اليمن فى الوقت الذى تنسق فيه السعودية مع الإصلاح فى اليمن، يجعل الإمارات فى النهاية مستعدة للتهدئة مؤقتا على الأقل حفاظا على التحالف مع السعودية فى اللحظة الراهنة.
ثانيا: تزايد التهديد الإيرانى
يرجع المراقبون نقلا عن مصادر مقربة من الدوائر الرسمية السعودية والإماراتية أن الاتفاق النووى يؤرق الدولتين وهناك تحسبات عدة لتزايد الدور الإيرانى على حساب الدور السعودى بسبب ذلك الاتفاق، وما قد تجنيه إيران دوليا وإقليميا، مع وجود تساؤلات عدة فى ذهن صناع القرار فى الدولتين بخصوص إمكانية تحول الموقف الأمريكى مستقبلا.
هذا التهديد ببساطة سيؤدى إلى إعادة ترتيب الأولويات من الدعم السخى غير المشروط للملف المصرى، إلى إعطاء الأولوية للملف الإيرانى وما يلزمه ذلك من إعادة توجيه المواد والجهود الدبلوماسية والسياسية، وخصوصا فى ظل عدم اعتماد السعودية والإمارات بقوة على الدعم المصرى العسكرى فى اليمن رغم استعداد مصر ورغبتها المساعدة فى هذا الملف.
ثالثا: تراجع أسعار البترول
فمع التراجع المتزايد لأسعار البترول والإحباطات المتزايدة من عدم معاودته الارتفاع مرة أخرى بالإضافة إلى تزايد التكاليف العسكرية للجبهتين اليمنية والسورية فإن الدعم السخى للملف المصرى من المرجح أن يبدأ فى التراجع تدريجيا خلال السنوات القادمة.
ورغم أن التحليلات الغربية والمقربة من مصادر على صلة وثيقة بدوائر صنع القرار فى دول الخليج تؤكد أن الأخيرة ليس فى نيتها على الإطلاق التوقف عن دعم مصر، إلا أن التكلفة العالية للتدخلات العسكرية السعودية والإماراتية مع ارتفاع أسعار البترول من شأنها أن تؤثر على حجم هذا الدعم وكذلك على تزايد الاعتماد على القروض كبديل عن المنح فى الحالة المصرية.
رابعا: الأوضاع الأمنية والاقتصادية فى الداخل المصري
حيث يرى أخيرا المحللون، نقلا عن مصادرهم المقربة من دوائر صنع القرار الخليجية، أن اجتماعات النخب فى دول الخليج وخصوصا فى الإمارات والسعودية تشهد عدم رضا واضح عن أداء السلطة المصرية اقتصاديا وأمنيا، فالإصلاح الاقتصادى يثير بشكل أبطأ بكثير من التوقعات الخليجية، وكذلك فإن تدهور الأوضاع الأمنية وعدم كفاءة الأجهزة الإدارية والتنفيذية المصرية دفع صناع القرار فى الخليج إلى إعادة حساباتهم الاستثمارية على الأقل فى مصر.
* * *
بعيدا عن التحليلات الغربية، فإن نقاشى مع بعض الأساتذة الزائرين من دول خليجية لمؤسسات أكاديمية غربية لم يبتعد كثيرا عن هذه التحليلات، فهناك قناعة أن دول الخليج لا تريد ولا تنوى إيقاف الدعم إلى مصر، ولكن هناك إعادة واضحة لترتيب الأولويات بحيث لم تعد مصر على رأسها كما كان الحال فى عامى 2013 و2014.
بالإضافة لذلك، فإن عدم الرضا الخليجى عن الأداء المصرى الرسمى أمنيا واقتصاديا، فضلا عن سياسيا (بالنسبة للسعودية على الأقل)، من شأنه أن يؤدى إلى تغيرات واضحة وإن كانت تدريجية فى دعم الملف المصرى، خصوصا أن الموقف المصرى من القضية السورية ونظام بشار الأسد يشكل نقطة خلاف وأحيانا حنق على النظام المصرى لدى دول الخليج.
كما أن التحالف العسكرى الذى أعلنت السعودية أنها تقوده بعضوية مصر لا يبدو أنه أكثر من إعلان رمزى على ما يبدو لم يُرتب له جيدا، فيمكننا إذن تفهم كيف يمكن لهذا التغير أن يتزايد مستقبلا وما يشكله ذلك كله من ضغوط على السلطة الحالية فى مصر.
من المبكر الإعلان عن تغيرات جذرية، لكن وبكل تأكيد فإن الزيارة التى من المزمع أن يقوم بها الملك سلمان إلى مصر ستكون مفصلية فى تحديد مستقبل العلاقات بين مصر ودول الخليج ومن ثم فى تحديد سيناريوهات التطور فى الإقليم.