إيمان القويفلي- العربي الجديد-
هناك مجموعة حقائق، تخصّ ما يُسمى إعلامياً «إبعاد اللبنانيين العاملين في الخليج».
الأولى: أن أياً من القرارات الرسمية الخليجية لم يُشر مطلقاً إلى «إبعاد اللبنانيين»، بل نصّ على عقوبات تخصّ «المؤيّدين والمنتمين والمتعاطفين مع حزب الله»، وهذا وصفٌ يمكنه أن ينطبق على أي شخص من أيّ جنسية، بما في ذلك المواطنون الخليجيون أنفسهم. بعد ذلك، تكفّلت الحواشي الإعلامية للقرارات الخليجية بترجمتهِ إلى «إبعاد اللبنانيين».
الثانية: أن البيانات الرسمية بشأن توقيع العقوبات على مؤيدي حزب الله لم تتوقف في الخليج خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة. هناك قرار خليجي صدر صيف عام 2013 عقب إعلان حزب الله دخوله إلى سورية، للمشاركة في قمع الثورة. وهناك تصريحات رسمية خليجية عادت إلى إثارة الموضوع، في صيف 2015، عقب بدء الحرب في اليمن، ثم هناك سيّال من التصريحات والبيانات الرسمية الخليجية، في منتصف شهر مارس/ آذار الجاري، بعد تصنيف حزب الله منظمة إرهابية. وهناك شيء غير منطقي في اتّخاذ هذا القرار قبل ثلاثة أعوام، ثم العودة إليه إعلامياً بشكل متكرّر وصاخب، وكأنه قرار جديد أو سيفرض "واقعاً جديداً" لم يفرضه القرار عند إعلانه أول مرة.
الحقيقة الثالثة: أنه إذا كان من الممكن تمييز وتجريم "التعامل مع حزب الله"، فإن تمييز "التعاطف" معه مسألة أكثر صعوبةً بكثير وأقل دقّة. ولهذا، هي تهمة أكثر قابلية للتعميم والإرسال، ويمكنها أن تشمل الجماعة كما الفرد، والانتماء التنظيمي، كما مجرّد الرأي.
خُلاصة هذه الحقائق: هناك نواة قانونية-سياسية صغيرة للقصة، تخص تصنيف حزب الله ومعاقبة رجاله، ثم هناك حاشية إعلامية-سياسية ضخمة، تتوق إلى تحويل القصة إلى عقوبةٍ جماعيةٍ للبنانيين كمواطنين، وللبنان كدولة. تخصّصت بعض مراكز القوى الإعلامية في الخليج من أفراد ومؤسسات، في الأشهر الماضية، في تغذية وتأكيد سردية الطرد والإبعاد والعقاب مع تسامح وربما رضا "رقابيّ" عن نشر مثل هذه القصص، ونشر كُتّاب خليجيون مقالاتٍ تمارس الشوفينية بشغفٍ وشراهة، وامتنانٍ خفيّ لرادءة الظروف الإقليمية، لأنها تخلق المساحات لمثل هذا الحديث.
وبادر أفراد غير مُهتمين أصلاً بالسياسة، ولا بالاقتصاد، لكتابة آرائهم المهتاجة حماساً لـ"طرد اللبنانيين"، لأن هذا سيُعيد لبنان إلى العرب، والسياسة اللبنانية إلى جادّة الصواب، والاستقرار للمنطقة، والوظائف إلى المواطنين الخليجيين! وعلى الرغم من هذا كله، غالباً ستظل القصة الفعلية صغيرة ومحدودة. لن "يتم الاستغناء عن العمالة اللبنانية"، ولن تمارس أي عمليات إبعاد أو طرد جماعي. القصة الكبيرة، هنا، هي هذه الرغبة العارمة والعامّة والسافرة، في ممارسة التهجير الجماعيّ تجاه جاليةٍ عربيةٍ، تعمل في الخليج. من أين تأتي؟
ربما تأتي من نظرة السلطات العربية إلى المواطنين العرب، باعتبارهم ملاحق وتابعيّات، لا مواطنين أفرادا مستقلين بحقوق ثابتة مستقلة عن الوضع السياسي وتقلباته، فالمواطن العربي، في هذا المنظور، مجرد امتداد ومجال نفوذ بشري لنظامٍ سياسيّ ما، وهو أيضاً مجرد مجالٍ لمعاقبة هذا النظام، أو قصقصة مساحات نفوذه، وحصار موارده.
من الطريف، هنا، ملاحظة أن من يرغب في معاقبة اللبنانيين في الخليج إنما يرغب في فعل هذا لأن "الدولة مختطَفة في لبنان"، فهوَ يرغب في عقابهم، على الرغم من إقراره الصريح، في الوقت نفسه، بعدم مسؤوليتهم عما يجري في دولتهم "المختطفة".
ثم هناك في الخلفية هذا الحلم المضمر، غير الصريح، الذي يخترق مخيال المجتمعات الخليجية، ويحضر في خلفية كل حادثة فرديةٍ أو شِقاقٍ عامّ، هذا الحلم بمجتمعاتٍ "نقية عنصرياً"، تتألف فقط من أبناء البلد "الأصليين"، بلا دخلاء ولا شركاء في الثروات والفرص والمنافع، فرغم تحول المجتمعات الخليجية تاريخياً، وبسبب عوامل ديموغرافية واقتصادية وتنموية، إلى مجتمعاتٍ منفتحةٍ على التنوع البشري، لكنه انفتاح شكليّ وعددي، لا يغير مزاج "الغيتوات" البشرية السائد.
ولا يغيّر مضمون أحلام اليقظة بـ "المجتمع النقيّ" في عقل المجتمع الطارد، وهذا الحلم على استعدادٍ للانفجار في أي لحظة حساسة، في لحظة الأزمة الاقتصادية، في لحظة الأزمة السياسية، في لحظة وقوع جريمةٍ صادمةٍ أو سرقة كبرى، أو خلافاتٍ في العمل وقوانينه.
أياً يكن "الآخر"، عربياً أو آسيوياً أو أفريقياً، جنوبياً أو شمالياً، ينفجر الحلم على هيئة جدل اجتماعي مُنبتّ عن الحقائق الاقتصادية والسياسية، لكنه مُصرّ على استخدام كل حجّة متاحة منهما (البطالة، الأمن، الجريمة، الولاء، الاختراق، "التطاول"، إلخ..) في سبيل الدفاع عن اقتراحاتٍ، مدارها طرد هؤلاء، ومنع أولئك من دخول البلاد، وحظر هؤلاء من العمل هنا وهناك.
وتبلغ الطرافة ذروتها، هنا، عندما يجتمع في خطابٍ واحد التفاخر بالرفاه الذي يوفره نموذج الدولة الريعية في الخليج، والدفاع الشرس عن حقّ المواطن الخليجي في الاستئثار بمنافعها، من دون "الأجانب".
في الوقت نفسه، الذي عجزت وتعجز هذه الدولة الريعية عن الاستمرار في العمل، إلا بوجود هؤلاء "الأجانب"، وتوفّر الأيدي العاملة الرخيصة التي تسدّ الاختلال الاقتصادي في نموذج هذه الدولة.
من هو دونالد ترامب في نظر قطاع متنامٍ من الأميركيين؟ إنه رجل وطنيّ، لا يُجامل، لا يهادن، صريح، سيحمي الأميركيين من "الأجانب" الخطرين، ويحافظ على مواردهم وأمنهم.
إنه رجلٌ لا يختلف كثيراً عمّن يلهجون بـ "طرد اللبنانيين"، على الرغم من أنهم، وللطرافة مرة أخيرة، يمقتونه جداً.
* إيمان القويفلي كاتبة سعودية وباحثة في الاجتماع.