تأثرت دول الخليج الست، السعودية والإمارات وقطر والبحرين والكويت وعمان بالانهيار الحاد في أسعار النفط، ومن قبلها الربيع العربي، وهو ما دفع بها للسعي نحو إصلاح هيكيلي في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي. ولطالما كانت العلاقة بين الأسر الحاكمة ونخب التجارة والأعمال علاقة وطيدة، قائمة على المصالح. وكان رجال الأعمال في دول الخليج يعملون دائمًا بالقرب من السلطة وداعمين لها، لكنّ الظروف الأخيرة قد وضعت النخب التجارية ورجال الأعمال في مقدمة الأعمدة الرئيسية التي ستعتمد عليها الأسر الحاكمة في برامج الإصلاح الاقتصادي وخلق فرص العمل ودعم موازنة الدولة والتنوع الاقتصادي المطلوب، ما جعل هناك تقارب كبير بين تلك النخب والأسر الحاكمة كما لم يكن من قبل.
تاريخ النفوذ السياسي لنخب رجال الأعمال
تمتعت نخب رجال الأعمال والتجارة بنفوذ سياسي تاريخي في شبه الجزيرة العربية. ومنذ نشوء ممالك شبه الجزيرة وممالك الخليج في بدايات القرن العشرين، كانت هناك علاقة قوية بين الحكام ونخب رجال الأعمال. حيث ضمنت الأسر الحاكمة للتجار نفوذًا تجاريًا وسياسيًا في مقابل الدعم السياسي.
كان نظام (الكفيل) في غالبية تلك الدول صورة من صور حفاظ الدولة على التجار المحليين ودعمهم في مقابل أي محاولة للاستثمار الأجنبي. ولكن منذ اكتشاف احتياطيات النفط الكبيرة والغاز في غالبية دول شبه الجزيرة، بدأت الأسر الحاكمة احتكار إنتاج وتصدير النفط، وهو ما أعطى للحكام نفوذًا اقتصاديًا في المقابل، بالإضافة إلى النفوذ السياسي، وأصبحت نخب رجال الأعمال والتجارة صفًا تابعًا في دعم الأسر الحاكمة في مقابل الحصول على امتيازات تجارية من الدولة، مثل التعاقدات الحكومية على المشروعات المختلفة.
وبينما وعدت الأسر الحاكمة في دول مثل الكويت وعمان بإبعاد أعضاء الأسرة عن أي نشاط تجاري، ففي قطر، التي كان المجتمع التجاري فيها أضعف وأصغر، سمح الحاكم لأقربائه لأن يصبحوا هم النخب التجارية والاقتصادية. بينما اعتمدت الإمارات بعد استقلالها على الخبرات التجارية لحكامها من أجل بناء الدولة الجديدة، وفي هذه الحالات اندمجت النخب التجارية داخل الهيكل السياسي للسلطة.
تزايد انخراط الأسر الحاكمة في العمل التجاري
عبر ممالك الخليج، شهدت العلاقة بين أسر الحكم ونخب رجال الأعمال والتجارة تطورًا كبيرًا في العقدين الأخيرين. فقد اتجهت الأسر الحاكمة في الدول الستة نحو مزيد من الأعمال التجارية والسيطرة على مفاتيح الاقتصاد على حساب النخب الاقتصادية المحلية التقليدية.
وكانت المملكة الأولى التي بدأ حكامها الانخراط في الاقتصاد بشكل واضح من دول مجلس التعاون الخليجي هي البحرين التي تغيرت كثيرًا بعد ارتفاع عائدات النفط عام 1973 وإيقاف البرلمان الذي عاش لفترة قصيرة عام 1975. والآن، يقتصر دور النخبة التجارية من رجال الأعمال على إدارة أعمال في شراكة مع شريك واحد وهي شركة يقودها عدد قليل من رجال أسرة آل خليفة، الذين أصبحوا هم النخبة التجارية الأبرز في البلاد.
وفي السعودية، زاد انخراط أسرة الحكم بشكل كبير منذ بداية التسعينات، حيث رأى جيل الأمراء الذين ولدوا في الستينات والسبعينات أن فرص المواقع السياسية محدودة العدد، فاتجهوا لطريق آخر وهو الانخراط في الأعمال التجارية والسيطرة على مقدرات المملكة. ومن هؤلاء الأمير «طلال بن عبد العزيز» وابنه الأمير «الوليد بن طلال».
وفي أبوظبي وقطر، سيطرت الأسر الحاكمة على شركات قوية سيطرت على الاقتصاد. وأصبحت النخب التجارية هناك تابعة للأسر الحاكمة وملزمة بالتكيف مع أولويات المصالح التجارية للحكام.
وفي الكويت وعمان، رغم أنّ الحكام ظلوا لفترة طويلة محافظين على أعضاء الأسر الحاكمة بعيدًا عن مجال التجارة والأعمال، إلا أن أفراد هذه الأسر بدءوا مؤخرًا الانخراط في مجال التجارة والأعمال. ففي الكويت، أصبح أبناء وأحفاد الحاكم الحالي «صباح الأحمد» لاعبين رئيسيين في الاقتصاد. وفي عمان، شارك ثلاثة من أبناء السلطان «قابوس» عمهم «طارق بن تيمور» في أعمال تجارية كبيرة.
هل تتبع نخب رجال الأعمال ببساطة الأسر الحاكمة؟
ظل القطاع الخاص في دول مجلس التعاون الخليجي لسنوات عديدة معتمدًا بشكل كامل على الدولة وتوزيع الحكومة للثروات. وبقيت العقود الحكومية مصدرًا أساسيًا في إثراء رجال الأعمال الفاعلين. كما اعتمدوا في بعض الأحيان على إنقاذ الحكومة لهم عند مواجهة الصعوبات المالية. وازدهر كثيرا القطاع الخاص بعد زيادة الاعتماد عليه من قبل الحكومة في نهاية العقد الماضي.
وعلى الرغم من التحول في تركيبة نخبة رجال الأعمال، إلا أنّ الاعتماد على القطاع النفطي ظل كما هو. وظلت الوجوه البارزة تعتمد على التشارك مع الأسرة الحاكمة في كثير من الأعمال لضمان الحماية ضد الوجوه الجديدة والإبقاء على الاحتكار والحماية من التأميم. وقد تمتعت تلك الوجوه بالنفوذ والتأثير السياسي على الأسر الحاكمة والقرارات الحكومية بواقع الشراكة والنفوذ الاقتصادي الكبير.
ويرجع نفوذ نخبة رجال الأعمال على الحكام للعلاقة التاريخية بين الحكام وطبقة رجال الأعمال والتجار، وتلاقي المصالح بين رجال المال والسياسة. ولكن في الدول الخليجية التي سيطرت فيها الأسر الحاكمة على كل مواقع القيادة الحكومية مثل البحرين والسعودية، لم يكن أمام التجار ورجال الأعمال إلا تكوين جماعات ضغط تتمثل في عدة صور مثل الغرف التجارية والصناعية، ومحاولة إقامة علاقات غير رسمية مع أعضاء الأسرة الحاكمة. وفي قطر والإمارات قامت نخبة رجال الأعمال بحماية مصالحها عن طريق العلاقات القريبة من النخبة السياسية. أما في الكويت وعمان كان الأمر مختلفًا قليلًا، حيث انخرط رجال الأعمال الفاعلين بشكل مباشر في السياسة الرسمية، وحازوا مناصب حكومية بارزة أو في البرلمان مثل ما هو عليه الأمر في حالة الكويت.
تشابك مصالح رجال الأعمال في الخليج مع السياسة لم يكن سلسًا طوال الوقت. في الواقع، استخدم رجال الأعمال في بعض الأحيان القنوات الرسمية وغير الرسمية لتحدي قرارات النظام السياسي حين تتعارض مع مصالحهم ذات الأهمية القصوى. وفي البحرين على سبيل المثال شكل رجال الأعمال جماعة ضغط لرفض محاولات رئيس الوزراء عمل إصلاحات في سوق العمل. وفي مثال آخر، حاول البرلمان في الكويت الذي تسيطر عليه المعارضة تحدي مصالح نخبة رجال الأعمال بشكل مباشر، حين عارض الإجراءات الحكومية الرامية لإنقاذ الشركات المتضررة من أزمة عام 2008، وطالب الحكومة بإسقاط الديون عن المستهلكين بدلًا من ذلك.
أما في دول مثل قطر والإمارات، لازالت العلاقة جيدة بين الحكام والشعوب والنخب المختلفة، حيث لازالت تلك الدول تقدم نفس مستوى الرفاهية لشعوبها، على عكس الدول كثيرة السكان مثل السعودية أو قليلة الموارد مثل البحرين وعمان، والتي تواجه مشاكل من هذا النوع.
الدولة ورجال الأعمال.. ليسوا منفصلين ولا متحدين
نظرًا للروابط التجارية والعائلية بين التجار ورجال الأعمال من جهة وأسر الملوك من جهة أخرى، فإنّ الفصل بين المصالح التجارية والدولة هي مجرد مفاهيم الآن، أكثر منها واقعًا عمليا. علاوة على ذلك، فقد أصبح تأثير العائلات والأهل بالغ الشدة في تشكيل التفاعل بين المصالح التجارية والدولة، لا سيما في الأسر الحاكمة.
وتميزت العلاقة بين الدولة والشركات في الخليج بـ 3 سمات رئيسية:
أولًا: مكّنت عائدات الريع الدولة من الاستقلال عن القطاع الخاص عن طريق تملك الأسهم في غالبية الشركات الكبرى في البلاد.
ثانيًا: لعب نسب العائلة وتاريخها دورًا هامًا في العلاقة بين الدولة وبيئة الأعمال التجارية.
ثالثًا: مثلت العلاقات الأسرية والتجارية، معًا أو بشكل منفصل، عقدًا من الاتصال والترابط بين الروافد الداخلية للدولة والدوائر الخارجية للمجتمع.
أدت هذه العوامل مجتمعة إلى أن يصبح القطاع الخاص ليس مجرد عميل لدى الدولة، ولكن أحد مصادرها الرئيسية للدعم.
العقبات الهيكلية أمام الإصلاحات
منذ عام 2011، ارتفعت وتيرة المطالبات بإصلاحات اجتماعية وسياسية واقتصادية داخل دول مجلس التعاون الخليجي، مثلها مثل باقي الدول العربية. ورغم ما كانت توفره دول الخليج لمواطنيها من مستويات الرفاهية، إلا أنّ الحديث عن ضرورة وجود إصلاحات اجتماعية وإطلاق الحريات والحديث عن انعدام عدالة توزيع الثروة، حيث تستأثر قلة محظوظة بالجزء الأكبر من الكعكة، زاد بين الشباب المنتقد للانظمة. ومما زاد الأمر سوءا، تزايد انخراط أبناء الأسر الحاكمة في الأعمال التجارية بشكل كبير.
وفي حالة من عدم اليقين السياسي والاقتصادي، يظل الخيار الأكثر عقلانية لنخبة رجال الأعمال هو الولاء للنظام، حتى ولو تقلصت امتيازاتهم بشكل أو بآخر. ويعكس الارتباط الوثيق بين نخبة رجال الأعمال والأنظمة الحاكمة، رغبة الطرفين في الحفاظ على الاستقرار السياسي والاقتصادي في أعقاب انتفاضات الربيع العربي. وبذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال الاعتماد على القطاع الخاص أن يكون محركًا باتجاه الإصلاح السياسي.
والحل إذًا يكمن في جيل جديد من رواد الأعمال الشباب المستقلين، لكنّ ذلك حتى الآن يبقى افتراضيًا.
يمكن اعتبار انخراط الأسرة الحاكمة بشكل متزايد في الأعمال التجارية محاولة من الملك أو الحاكم للسيطرة على تمدد وتوسع الأسرة. فكلما زاد عدد أفراد الأسرة وفروعها، كلما قلت فرص هؤلاء في الوصول للعرش، ويتم التغلب على تطلعاتهم السياسية في الحكم، بالسماح لهم بالانخراط بشكل كبير في الأعمال التجارية، مع تقديم امتيازات خاصة تسمح لهم بالوصول إلى ما يطمحون إليه بشكل سريع.
ولكن من المهم أيضًا فهم الصراع بين المصالح السياسية والمصالح الاقتصادية في المستويات الأعلى في ممالك الخليج. فبينما يتطلب الأمر من الحكومة اتخاذ قرارات تتعلق بالحد من البطالة بين الشباب، وتشجيع القطاع العام من أجل الوظائف، يتعارض ذلك في كثير من الأحيان مع مزايا ومصالح شركات القطاع الخاص وشركات رجال الأعمال التي تتبع بعضها أفرادًا بارزين بالأسرة الحاكمة.
استنتاجات
منذ عام 2014، استجابت حكومات دول مجلس التعاون الخليجي لانخفاض أسعار النفط بحزمة من إجراءات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، مثل تعزيز نمو القطاع الخاص من خلال الحوافز المحسنة لتشجيع الاستثمار الأجنبي، وتخفيضات الدعم والإنفاق الحكومي، وتنفيذ إصلاحات في سوق العمل بما في ذلك إعادة النظر في نظام الكفيل، وزيادة الضرائب، وفرض ضرائب جديدة مثل ضريبة القيمة المضافة.
جاءت بعض تلك التدابير في حزم متفرقة في بعض الدول. وفي دول أخرى كالسعودية، جاءت تلك التدابير في صورة رؤية شاملة مثل رؤية 2030. بالرغم من ذلك، كانت مثل تلك الرؤى قد أعلنت في 2008 و2010 في باقي دول الخليج، مثل الرؤية الاقتصادية للبحرين 2030، والرؤية الاقتصادية لأبوظبي 2030، والرؤية الوطنية لقطر 2030، ورؤية الكويت 2035، وكلها تعتمد على التنويع الاقتصادي، لكنّها لم تنفذ بالكامل، وأدّت إلى تركز الثروة في أيدي قلة قليلة، وزادت من السخط الشعبي.
ونظرًا لهذا السجل الحافل من الإخفاق، يتم التحرك نحو خطط الإصلاح بمزيد من الحذر. وخاصةً مع تضارب المصالح بين طلبات نخبة رجال الأعمال، ومن بينها أفراد الأسر الحاكمة، وطلبات الأفراد العاديين الذين يفضلون فرض الضرائب على الشركات، بدلًا من فرضها على دخل الأفراد.
ويؤدي هذا التنافس الهيكلي بين نخبة رجال الأعمال والمواطنين إلى تصعيب الأمر على الحكومة في تنفيذ تدابير تقشف واسعة من أجل التنمية المستدامة. ومع تصاعد الضغوط الداخلية والمجتمعية منذ عام 2011، كانت الفرصة سانحة للأنظمة لإبرام عقد اجتماعي جديد وإعادة توزيع عادل للثروة، لكنّ الأنظمة بدلًا من ذلك، اتجهت لتركيز وتعميق الثروة والسلطة في يد النخب، والأدلة خلال العقد الماضي تدل على أنّه لا يوجد سيناريو لإصلاح شامل يلوح في الأفق.
تشاتام هاوس- ترجمة وتحرير شادي خليفة - الخليج الجديد-