هل استطاع المجتمع في الخليج العربي صياغة خطاب خاص به عن حقوق الإنسان؟ أم أنه اكتفى بالخطاب الوافد إليه من الخارج؟ ثم، كيف تعالق المجتمع مع هذا الخطاب، هل قبله بكليّته، أم تعامل معه تعاملاً نقدياً واعياً مَكّنه من تحقيق مكاسب ثقافية وفكرية انعكست على منظومة القوانين الناظمة لحياة الناس في هذه المنطقة؟ إلى أيّ مدى تمكّن المجتمع من التعامل مع خطاب كهذا في ظل الحضور المركزي للدّين والإسلام في المنطقة، ومع محورية القبليّة بحمولاتها الطبقية والثقافية والاجتماعية؟
كيفية تشكّل الوعي في الخليج
ينظر المجتمع في الخليج لنفسه باعتباره يقطن منطقة مركزية، لها أهمّيّتها في العالم المعاصر من جوانب رئيسية ثلاثة: التاريخ، الجغرافيا، والثّروة. فللمنطقة مكانة خاصة في تاريخ العرب والمسلمين الديني والفكري والسياسي، فهي بلاد الإسلام الأول، وأرضها شهدت اجتهادات وممارسات النبي في تأسيس دولة قائمة على مبادئ هذا الإسلام. وأما موقعها الوسيط لقارات العالم ومحيطاته فقد أسبغ عليها بعداً استراتيجياً لا يمكن تجاهله. وتعزز كل ذلك بحيازة باطن أراضيها لثلثي احتياطي النفط في العالم، والذي يُعدّ، حتى اللحظة، عصب الاقتصاد الدولي وشريانه النابض.
إنّ ثلاثيّة الميراث الثقافي والجغرافي والمالي تلك قد شكّلت وعي المجتمع المعاصر في الخليج، كما أنّها أطّرت حراكه تجاه توليد خطابه الخاص بحقوق الإنسان. يواجه هذا المجتمع العديد من الأزمات التي تحول دون اجتراح خطاب حقوقي إنسانوي واضح ومتماسك. ولذلك وفي ظرف كهذا، ما زال خطاب حقوق الإنسان ناتجاً عن، ووافداً مِن ذاتٍ خارجية تمثلها الحركة الحقوقيّة الدوليّة، التي تطورت أفكارها ضمن السياق الأوروبي لحقوق الإنسان.
يتواجه المجتمع في الخليج اليوم مع أزمات معاصرة أطّرت تفاعله مع ثيمة حقوق الإنسان من زاويتها المعاصرة، بشكل أكثر تحديداً. ليس بالضرورة أن منشأ هذه الأزمات المتعارض مع روح القيم التي تنادي بها الشّرعة الدولية، ولا تلك المشتركات المتعددة التي بإمكانها أن تخلق قاعدة لانطلاقة مقبولة، بقدر ما أنّ الأمر متعلق بالخبرة الزمنية والجهد المعرفي المبذول لمناقشة هذه القيم، مع توفر أجواءٍ حرّة، ومؤسسات راسخة لاحتضان ذلك الجهد، ومنحه الوقت الكافي لتخمّر الأفكار، إضافة إلى حرص أطرافٍ ذات مصلحة، تغذي العلاقة المشدودة بين المجتمع وتوليد خطاب كهذا
بعض أزمات المجتمع في الخليج اليوم
من هذه الأزمات التي نعنيها:
• أزمة المرجعية ـ المجتمع في الخليج ما تزال تتناوشه الاستقطابات المرجعية: بين غالبية ترى بأن "الشريعة الإسلامية" هي المرجعيّة الأساسية للحقوق الإنسانية، وهي المسطرة القانونية التي يتوجب على الجميع الالتزام بها تحصيناً للمجتمع وتزكيةً للفرد. وتحذر القيادات الدينية الرسمية على الدوام من "التشكيك والتذمر من تطبيق الحدود الشرعية"، واصفةً "مدّعي حقوق الإنسان" الذين ينتقدون تطبيق الحدود، بأنهم أعداء الإنسانية، وفي قلوبهم مرض، لتساهلهم مع المفسدين والقتلة، مؤكدةً أنّ في تطبيق الحدود الشرعية وتنفيذها إصلاحاً للمجتمع وتنقية له، وحماية من "الرذيلة". هذا الفريق يشكّل قطباً كبيراً، يحشد وراءه الكثير من الأنصار والمؤيّدين، وتدعمه الأنظمة الحاكمة القائمة، لكونه يُؤمّن لها سيطرة مريحة على الإدارة والحكم والتحكم بالثروات. وبين مرجعية حديثة من جهة أخرى، قوامها أفكار أكثر تحرّراً تشترك مع خطاب حقوق الإنسان في العالم في نقاط كثيرة، لكنّها محدودة، ومعزولة، ومشتّتة الجهود، منظوراً إليها بغرابة من الغالبية، وغير ذات تأثير. كما أن المنطقة ما زالت تفتقر إلى الاستناد إلى قاعدة التراكمات التاريخية للأفكار والمفاهيم التي تعود مرجعيتها إلى عصر النهضة الأوروبية، التي قدمت معالجات اجتماعية واقتصادية وسياسية لمجتمعات في سياقات تخصّ تلك المجتمعات. لذا، فإنّ الحديث عن "ليبرالية جديدة" في الخليج يجانبه الصّواب، وأن "عمليات الإصلاح المجتمعي الذي كان يطالب بالعدالة والمساواة والتحرّر ما هي إلا ضمن سياق رفض السيطرة الأجنبية والحصول على الاستقلال والحرية الفردية، والتي اختزلت في حقوق التعليم والقضاء على الجهل والأميّة ومحاربة البدع والخرافات، واعتماد الإسلام بمنظور العصر، فيما كانت السلطة العائلية بعيدة كلّ البعد حتى عن مجرد التشكيك في شرعيّتها وأهليّتها من قبل المجتمع". بينما يرى رجال دين آخرون في الخليج أنّ تطوير بنية اجتماعية حاضنة لحقوق الإنسان مرهونة بقدرة مجتمعات المنطقة على تطوير أنظمتها السياسية بتوسيع دائرة المشاركة في الحكم والإدارة وأنّ "الانتهاكات الحاصلة لحقوق الإنسان في منطقة الخليج ما هي إلا وليدة الأنظمة الاستبدادية والشمولية التي تمارس كل أنواع الظلم والعسف والقهر لبقاء سلطانها الاستبدادي، والإسلام بريء من هذه الانتهاكات. وإن المحاولات التي يبذلها علماء السلطان لسبغ الشرعية على تجاوزات السلطة الاستبدادية، لا تنطلي على الواعين من أبناء الأمة، ولا تحسب بأي شكل من الأشكال على الإسلام مبادئ وقيماً ومثلاً عليا".
• أزمة الرابطة ـ ترتكز الروابط بين المكوّنات المجتمعية المختلفة في مجتمع الخليج اليوم على الولاء أكثر منه على المواطنة. وتتعدّد وتتداخل دوائر هذا الولاء، فمنها القبلي، ومنها الطائفي والمذهبي والمناطقي، ومنها العرقي والإثني. كما ترعى أنظمة الحكم الحالية هذه الولاءات، لأن "الطرف الماسك بالدولة أو الموظِّف لها يرى أنها وسيلة نحو احتكار المزايا والمنافع في خاصته أو جماعته أو طائفته أو قبيلته أو قوميته، أو هكذا ترى فيها الأطراف الأخرى المتصارعة معها أو المتضررة منها". وارتبط الولاء بمنظومة اقتصادية ترى فيه معادلاً موضوعياً للرفاه والأمان النفسي والاجتماعي، وهو ما يعرقل ممارسة المواطَنة في حدودها الدنيا. إن المجتمع القائم على وشائج المواطنة قادر أكثر من غيره على صياغة خطابه الخاص بحقوق الإنسان، وبما أن مفهوم المواطنة لم يترسّخ بعد كممارسة وسلوكيات تؤمن بها الدولة أو يحافظ عليها المجتمع، فإن الحديث عن خطاب حقوق إنسان في الخليج لا يغدو أن يكون أكثر من أمنيات وتطلّعات وأحلام، ذلك لأن المواطنة كقيمة، تقوم على تكافؤ الفرص والمساواة: تساوي أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات، والتمتّع المتساوي في المنافع والمصالح وفي الثروات القومية، ومشاركتهم النشيطة في الحياة السياسية، التي هي حق عام لكل الأفراد، وأن الدولة للجميع، والتي فيها يستطيع المواطن أن يعبّر عن اختلافه مع الدولة دون خوف أو خشية من المصادرة، مقابل احترامه للدولة والمحافظة على سلامتها. وهو بالتحديد ما يدعو إليه، في حده الأدنى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
• أزمة الإنتاج ـ أفرز عصر النفط واقعاً اجتماعياً واقتصادياً لمجتمعات دول الخليج العربية، يكاد يكون لا مثيل له في بقية دول العالم. إذ كشفت الفورة النفطية والطلب الدولي على هذه السلعة الضرورية للرأسمالية العالمية، عن ضعف المجتمعات القائمة وعجزها على مستوى الكمّ والكيف في الإيفاء بالمتطلبات المتزايدة والمتسارعة لهذا النظام الاقتصادي ودورته المالية القصيرة. كما شجعت فورة كهذه على تخلّق مجتمعات خارج رحم المجتمعات الواقعية، مجتمعات جديدة، متجاوِرة ومنعزلة في آن واحد. مجتمعات كشفت أسئلة جذرية لحقوق الإنسان كأسئلة المساواة والعدل والحرية: إنها مجتمعات العمالة الأجنبية. وإذا تجاوزنا الإشكال الهيكلي الذي تعانيه أغلب دول الخليج في ما بات يُسمّى بـ"خلل التركيبة السكانية"، فإنه لا يمكن تجاوز واقع حياة هذه العمالة التي تشكل في مجموعها 22 مليون نسمة في العام 2014 (نصف عدد سكان دول الخليج العربية مجتمعة)، ولا يمكن تجاوز طبيعة استجلابها واستقدامها، وتحوّلها نخاسة جديدة، ولا يمكن غض البصر عن نظام "الكفالة"، ولا عن ظروف العمل وساعاته التي تصل بعضها إلى درجة "السُخرة"، ولا يمكن تجاوز أثر الاتجار بهذه العمالة، وبناء نظام اقتصادي هشّ ريعي قائم على جهودها البدائية ومستويات تأهيلها المتواضعة، وظروف معيشتها البائسة.
ترتعب مجتمعات دول الخليج العربية من هذه الأزمة، لأنها مرتبطة بإشكالات جذرية ضاربة في العمق، تتعلق بمسائل التوطين وبرعب البطالة بين الأجيال الجديدة من مواطنيها، والمنافسة في قطاعات العمل والإنتاج والبيئة والتكيّف والاندماج الاجتماعي والهجرة والهوية والاغتراب والهواجس الثقافية المتبادَلة بين الطرفين، والتحدّيات الأمنيّة. ولعلّ أهم هذه المشكلات تلك المتعلقة بالحقوق المدنيّة والسياسيّة للعمّال، ولا سيما التخوّف السياسي في ما يتعلّق بحقهم في التوطين والتملك.
إن هذه الأزمة هي اختبار حقيقي لفهم مجتمعات الخليج لخطاب حقوق إنسان، ولا يكفي انتظار الأنظمة الحاكمة لكي تجود بحل في هذا الشأن، لأنّها ــ أي الأنظمة ــ هي أكبر المستفيدين من انتهاكات الحقوق الأساسية لهؤلاء البشر الذين أجبرتهم ظروفهم وطبيعة النظام الرأسمالي السائد في العالم، مع تآمر حظهم السيئ عليهم، للعمل في ظروف كهذه.
حتى الحلول المطروحة لتعديل هذا الراهن لا تَعِد إلا بالمزيد من اللّاعدالة. إنّ وصفات البنك وصندوق النقد الدوليين التي تعبر عن تعديلات "الليبرالية الجديدة" لا تبشّر إلا بنتائج أكثر رداءة، لأنّه تم تجريبها طويلاً في دول أكثر توفراً لعناصر الإنتاج، ولم تنتج إلا آثاراً اجتماعية سلبية، كمثال مصر في عهد مبارك وأمريكا اللاتينية قبل عقود.
هذا ناهيك عن عواقب التعديلات "النيوليبرالية" التي تؤثر على ازدياد معدلات البطالة وآثارها الاجتماعية على استقرار المجتمعات. ولا يمكن التهليل طوال الوقت بالحلول "الوردية" التي تعِد بها "حرية السوق" وسياستها المصاحبة، والتي لم تؤكد في الواقع العملي والعالمي إلا على المزيد من الممارسات الاستغلالية في أماكن العمل، وفقدان الأمن الوظيفي، وعدم ضمان فرص وظيفة لقوى العمل الجديدة، وارتفاع نسب التضخّم، وتذبذب سعر صرف العملة الوطنية وغيرها من الأعراض التي تجعل العدالة الاجتماعية أيّ شيء ما عدا أن تكون مؤكَدة.
سعيد سلطان الهاشمي- السفير اللبنانية-