خليل العناني - العربي الجديد-
لم يتوقف الصراع على الدولة العربية منذ أوائل القرن الماضي. وبعد أن كان يدور بالأساس بين المحتل الأجنبي والنخب الوطنية، انتقل بعد الاستقلال ليكون صراعاً بين هذه النخب، من أجل السيطرة والهيمنة على الدولة، أو بالأحرى على مشروع الدولة الوليدة آنذاك.
وقد حاولت قوى سياسية وإيديولوجية عديدة فرض هيمنتها، سواء الفكرية أو السياسية، على المجتمع وإعادة تشكيله، من أجل ضمان تأييده في صراعها بعضها مع بعض. وكانت النتيجة أن المجتمع أصبح مجرد أداةٍ، تستخدمها النخب والقوى في صراعها، وليس طرفاً مستقلاً في اللعبة بينها، إلا بقدر تحقيق مصالح أي منها.
جاء «الربيع العربي»، وحاول كسر هذه المعادلة، من خلال إشراك المجتمع بقواه الحية فاعلاً مستقلاً وأساسياً ربما للمرة الأولى في بناء دولته، وتصحيح بوصلتها. ولكن سرعان ما انقلبت تلك القوى عليه، وانقضّت على حلمه، ودخلت في صراعٍ شرسٍ أدى إلى تقسيم المجتمع ذاته وتحطيمه، كما هي الحال في سورية وليبيا واليمن.
ولم يكن فشل «الربيع العربي» إلا بسبب إصرار الأصولية السلطوية العربية على خنق المجتمع، وتأميم المجالين، السياسي والعام، بشكل لا يسمح بظهور أية حركات سياسية حقيقية، أو مجتمع مدني ناضج وقوي، يمكّنها من أن يشكل بديلاً لها.
الأصولية السلطوية، ويعنى بها هنا تركيز السلطة وتجميعها في أيدي فئةٍ قليلةٍ تستخدم كل أشكال القمع والعنف والإقصاء من أجل البقاء في السلطة والاستئثار بها مهما كان الثمن، تمثل أحد الأسباب الأساسية لسقوط الدولة الوطنية وانهيارها في أكثر من بلد عربي، وذلك في مفارقة غريبة.
فالمفترض أن هذه "الدولة" ليست فقط بمثابة الجهاز الأساسي الذي تستخدمه هذه الأصولية، من أجل تحقيق وظيفتي القمع والاستئثار بالسلطة، بيد أنها تصبح أول من يدفع ثمن تفكك النخبة الأصولية وسقوطها.
وقد تفشّت هذه الأصولية السلطوية طوال العقود الستة الماضية، وشكلت مراكز القوى بشكل ممنهج ومؤسسي، أدى إلى سيطرتها على المجتمع بشكلٍ لم يضعف فقط كل الوسائط السياسية، كالأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، وإنما أيضا وأدت أية بدائل سياسية حقيقية وجادة.
لذا، فعندما اندلعت موجة "الربيع العربي"، وسقطت بعض أضلاع هذه الأصولية السلطوية، انكشفت حالة الفراغ السياسي الهائل الذي لم يجد من يملأه سوى جماعات وحركات مختلفة، تتفاوت فى درجة أصوليتها الدينية والطائفية.
أنتج تفشّي الأصولية السلطوية، أيضا، جماعاتٍ وطوائف منغلقة على نفسها هوياتياً، ومتقوقعة ذاتياً، وما إن تحن الفرصة حتى ينطلق عقالها، وتسعى ليس فقط إلى الانتقام السياسي، وإنما أيضا التخلص من عقبة "الدولة"، فالأخيرة بالنسبة لها ليست مجرد "آلة قمع وإقصاء"، وإنما بمثابة "عدو" يجب التخلص منه وإسقاطه.
حدث هذا في العراق بعد صدام حسين، ويحدث الآن في ليبيا واليمن وسورية، وما كان لعواصم وحواضر ظلت قائمة ومتماسكة عقودا أن تسقط بسهولة ويُسر فى أيدي جماعات وطوائف، لولا السلطوية في هذه البلدان، ومن يحكمها، وفشلها في احتواء ودمج جماعاتها وفصائلها السياسية والمذهبية والعرقية.
كانت الأصولية السلطوية أيضا سبباً مهماً في تغذية الأصولية الدينية وشرعنتها. ليس فقط بسبب إغلاقها المجال السياسي، بما لم يسمح بدمج الحركات والأحزاب الأكثر اعتدالاً، وإنما أيضا بسبب تأميمها واحتكارها كل المساحات التمثيلية الأخرى، كالبرلمان والنقابات والجامعات، ما أسبغ شرعيةً على استراتيجية التحدي التي مارستها الأصولية الدينية تجاه الدولة والمجتمع.
كما ساهمت الأصولية السلطوية في زيادة الطلب على الأصولية الدينية، حيث انضم شبابٌ إلى صفوف هذه الحركات، باعتبارها البديل الوحيد للأصولية السلطوية. كذلك ساهم توظيف الأصولية السلطوية الشوفيني مفهوم الوطنية في نفور كثيرين من الدولة، باعتبارها وحدة سياسية جامعة، والبحث عن كيانات أخرى بديلة، كالطائفة والقبيلة.
وقد أسهم الصراع بين الأصوليتين، الدينية والسلطوية، في نشوء أصولية ثالثة، هي الأصولية العلمانية التي تناصب المتدينين العداء، وتتحالف مع الأصولية السلطوية، من أجل التخلص منهم، وإن جاء ذلك على حساب منظومتها القيمية والأخلاقية.
ومن المفارقات أن هذه الأصوليات الثلاث (السلطوية والدينية والعلمانية) تتبع فلسفة واستراتيجية واحدة في التعاطي مع المخالفين لها أو الراغبين في المشاركة بالسلطة، هي: الإقصاء والتهميش والاستبعاد.
لذا فإن التخلص منها غالباً ما يكون باهظ الثمن، إما من خلال سقوط الدولة وانهيارها أو عبر تفسّخ المجتمع كتلة واحدة متماسكة وانحلاله. وعلى الرغم من ذلك، تظل الأصولية السلطوية الجذر الأصيل للأصوليتين الأخريين، والمحرّك الأساسي لتطرّفهما الفكري والسياسي.
تتحمّل الأصولية السلطوية، إذا، مسؤوليةً أساسيةً عن انهيار مشروع "الدولة" الوطنية في العالم العربي. وهي مسؤوليةٌ تتوزع على مرحلتين:
- أولهما جرت خلال مأسسة عملية الإقصاء والتهميش وتجذيرها ضمن بنية المجتمع على طريقة "فرق... تسد"، وذلك على حساب جماعات وفئات محلية هُمشت وأُجهضت حقوقها،
- الثانية من خلال رفض التنازل عن السلطة طوعاً، أو حتى القيام بإصلاحات حقيقية بعد موجة "الربيع العربي"، وهو ما أفضى إلى ما نشهده الآن من تفسخ وانحلال للدولة العربية، بشكلها التقليدي الذي ظلت عليه طوال القرن الماضي.