شيخة الجاسم - البيت الخليجي-
في منطقتنا المأزومة، ومن بلد لآخر، يختلف ويتباين ما يبثه الإعلام الرسمي داخليًا عما يُبَثْ للخارج. ينشر الإعلام الرسمي الموجه داخلياً أفكاراً وخطاباً دينياً صرفاً من قبيل “ماذا تفعل ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك” أو “كيف تضمن الجنة” و”كيف تكالبت علينا الوحوش ونحن شعب صامد بقيادة حكيمة، والله ناصرنا لأننا نقف مع الله”. خطابات وأفكار تهدف في مجموعها إلى تغييب المواطنين بالآخرويات لتنسيهم معايشة الواقع والرقابة على السلطة التنفيذية في وطنهم، ولتبيعهم قصة أُعدّت بإحكام بغرض الإلهاء.
وعلى جانب آخر؛ يتمركز خطاب دولة أخرى حول زخم “الإنجازات العمرانية والترفيهية للقيادة الحكيمة”. يأتي ذلك ضمن مشروع إلهاء آخر للمواطنين من خلال التركيز على ثقافتي الترفيه والاستهلاك بعيدًا عن مراقبة مؤسسات الحكم التي تتلاعب في مقدرات الدولة. في بقعة أخرى، تُلغى ويُعبثُ بعقلانية المجتمع تماماً لصالح تمجيد (الحاكم) وتأييده تأييداً مُطلقاً. تخلق مؤسسات الحكم هناك شعباً مرعوباً لا يتجرأ على النقد أو التفكير. في جميع الحالات ومختلف الاستراتيجيات تبدو النتيجة واحدة؛ شعوب مُغيبة، فساد مسيطر وديكتاتوريات تامّة.
الإعلام الحكومي: لعبة التخدير
حين تحكم الدولة قبضتتها على حرية الرأي والتعبير وتحتكر منافذ الكلمة المقروءة والمسموعة، وحين تعتمد في مناهجها التعليمية وإعلامها الموجه – يومياً – خطاباتٍ وأفكاراً تشغل مواطنيها وتُغيب عقولهم، وسواء أكان هذا الإلهاء الرسمي والمدروس عبر ربطهم بالدين أو بالترفيه والاستهلاك أو بالقمع والتخويف، فقد ضمنت الدولة عبر هذه الآليات شعوباً مُخدرة ومُغيبة.
ولئن كان الفضاء الالكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي قد مثلوا خطراً حقيقياً في مواجهة مؤسسات الدولة حين فتحت للمجتمعات الخليجية مجالات واسعة للتعبير عن الرأي وفرصة للإطلاع على الديمقراطيات العريقة، وعرفتهم بحال الشعوب الحرة التي يحق لها أن تحدد مصيرها، وأن تناقش القرارات المصيرية، وأن تطلع على التقارير الرسمية وتحاسب سراق المال العام، إلا أن هذه الفرصة لم تدم طويلًا إذ تنبهت الديكتاتوريات لهذا الخطر وصاغت القوانين اللازمة الكفيلة بتجريم الكلمة في الفضاء الإلكتروني والحد من انتشارها.
على مستوى النتيجة، نجحت حكومات دول الخليج في تغييب عقول جزء غير يسير من مجتمعاتها. تستطيع أن تلاحظ ذلك بوضوح وجلاء عبر المناقشات السياسية العامة التي تزخر بخطابات التمجيد والمنافحة عن الوضع القائم، حيث لا تُناقش الأفكار بل تنتصر على الدوام حالة الإنفعال والمدافعة والمهاجمة العمياء لدى الأكثرية. وعليه، تستمر حكومات دول الخليج في إدارة شؤون البلدان – داخلياً وخارجياً – في معزل عن مشاركة المواطن، رأيه ومصلحته، حيث المصلحة الكبرى هي – دائماً وأبداً – في بقاء الأسر الحاكمة في مواقعها والتحكم بالدولة وقرارها، يومها ومستقبلها.
منافسو السلطة
ولا تقتصر مهمة إلهاء مجتمعات الخليج وتخديرها على الأجهزة الإعلامية للدولة فقط، بل تُمارس أيضاً من قبل التنظيمات السياسية الطامعة في السلطة عبر تجنيد الناس واستغلالهم للهدف الأكبر، وهذا ما قامت به جماعة الإخوان المسلمين على مدى عقود مضت ونجحت في ذلك.
تبث الجماعة تصورها الذي يرتكز على فكرة قيام دولة إسلامية وإعادة أمجاد الأمة. وفي سبيل ذلك، تغلغلت في المجتمع إعلاماً وتعليماً وتجمعات. بل وغزت أفكارهم المناهج التعليمية بسبب تخادن/تحالف السلطات معهم في أزمنة سابقة سهلت لهم الوصول إلى مناصب قيادية.
تمثل معتقدات الإخوان المسلمين نوعاً من غسيل الدماغ حين يعطى الفرد إجابات جاهزة لأسئلة يفترض أن تكون محور البحث في حياته. يقدمون له هدفه بالحياة، ورسالته، وقيمه، ومبادئه، ودوره، وشكل حياته بل حتى توقعاته من الآخرين تصبح مرسومة سلفاً من الجماعة التي لم تدع شيئاً إلا ورسمته سلفاً لأجيال من الشباب الذين صدقوا خرافة إقامة الدولة الإسلامية، وخسروا فردانيتهم، وجمال البحث عن الأهداف وتكوين القيم الشخصية، واختيار شكل الحياة التي يريدون. جريمة كبرى بحق الإنسان شارك ويشارك فيها كل من يدعي أنه يعرف الطريق الصحيح، ومن يتبع هؤلاء المدّعين دون تفكير.
أين نقف اليوم؟
نقف اليوم أمام مشهد مهيب من صراع الجبابرة: السلطات التي انقلبت على الإخوان المسلمين من جهة، وجماعة الإخوان الذين تمكنوا من غسل أدمغة أجيال من المؤمنين بخرافاتهم من جهة أخرى. تمتلك الحكومات وسائل الإعلام، والأجهزة الأمنية، والقضاء والعلاقات والمصالح الدولية المعقدة، ويمتلك الإخوان المسلمون جمهورهم الكبير من الشعوب التي آمنت برؤيتهم للعالم. ولعل ذلك يفسر فشل ثورات الربيع العربي خارج منطقة الخليج، حيث ما تحت أيدي الحكومات أقوى من رؤى وأمال وأحلام ملايين الشباب المؤمن بقيام خلافة إسلامية.
المتغيرات في الأحداث تقدم للجميع اليوم فرصة ذهبية نحو إعادة تشكيل القيم والأهداف والأفكار وشكل الحكم والعلاقات بين الحاكم والمحكوم بطريقة تضمن حقوق الجميع.
من الذكاء أن تقوم الحكومات اليوم باستقطاب الشعوب واحتوائهم وتمكينهم وغرس مبادئ وطنية وإنسانية في عقولهم. كما تقدم الضربات التي تلقاها الإخوان فرصة للجماعة نحو إعادة النظر في مبادئهم وأهدافهم وقيمهم، وتقييم الأحداث السابقة واقتراح المناسب من التغييرات لخلق نماذج جديدة من الشباب القادر على الاندماج مع الواقع الجديد. ليس من مصلحة الحكومات التخلص أو معاداة شريحة من مواطنيها أيا كانت توجهاتهم، وليس من مصلحة الإخوان استمرار المخاصمة وخسارة ما كسبوه في عقود ماضية. اليوم نحن نحتاج إلى من يجمعنا، لمن يرى التشابه بيننا ويخلق واقع جديد. فهل يبدو القادة قادرين على ذلك؟