نيري زيلبر- معهد واشنطن-
في السنوات الأخيرة، ولّدت المغامرات الإيرانية والتطورات الأخرى في منطقة الشرق الأوسط تقارباً تاريخياً في المصالح بين إسرائيل ودول الخليج العربية، مع قيام مسؤولين إسرائيليين بارزين بزيارات دورية هناك، وتطوّر التعاون الاستخباري بين الجانبين بحيث أصبح حدثاً منتظماً، وبدء الروابط الثقافية والاقتصادية بالظهور تدريجياً إلى العلن. ومع ذلك، يمكن القول إنه تم التدقيق في هذه العلاقات بشكل كبير في المجال السيبراني. فوفقاً للحسابات العلنية، استخدمت الحكومات العربية التكنولوجيا الإسرائيلية للدفاع عن أنظمتها ضد الهجمات الإلكترونية والقبض على الإرهابيين، ولكن أيضاً لاستهداف النقّاد المحليين، من بينهم كما يحتمل الصحفي السعودي المقتول جمال خاشقجي.
التهديدات والمصالح المشتركة
بدأ هذا التحسن في العلاقات مع دول الخليج العربي في تسعينيات القرن الماضي عقب اتفاقيات أوسلو وعملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية الحديثة آنذاك. ومن أبرز الأحداث قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين بزيارة سلطنة عُمان في عام 1994، وفتح إسرائيل مكتب تجاري في قطر بعد ذلك بعامين. وفي الوقت نفسه، وفي سياق المفاوضات حول بيع الولايات المتحدة طائرات حربية من طراز "إف 16" إلى الإمارات العربية المتحدة خلال تلك الفترة، لم تعترض الحكومة الإماراتية على وجود تكنولوجيا إسرائيلية في تلك الطائرات. وكما قال أحد المسؤولين الأمريكيين إلى صحيفة "نيويوركر" في حزيران/يونيو المنصرم: "أراد الإماراتيون كل ما كان لدى الإسرائيليين".
وخلال العقد الماضي، دفعت التهديدات العسكرية المتزايدة من إيران ووكلائها، ومن الجماعات السنية الجهادية مثل تنظيم «الدولة الإسلامية»، إلى قيام تعاونٍ أمني أوثق بين إسرائيل ودول الخليج. وقد ظهرت هذه الحاجة للمرة الأولى في عام 2007، عندما لجأت دولة الإمارات إلى شركة "فور دي للحلول الأمنية" [4D Security Solutions] التي تعود ملكيتها لإسرائيل ومقرها في الولايات المتحدة، من أجل تحديث دفاعاتها حول منشآت الطاقة الحساسة، وإنشاء نظام مراقبة "ذكي" على مستوى المدينة في أبوظبي. ووفقاً لتقارير إعلامية متعددة، فازت شركة "آي جي تي إنترناشونال" [AGT International]، وهي شركة سويسرية منفصلة يملكها صاحب شركة "فور دي" ماتي كوخافي، بعقد قيمته 6 مليارات دولار وفقاً لبعض التقارير، مع تقديم شركة "لوجيك إندستريز" [Logic Industries] التابعة لها ومقرها في إسرائيل الخبرة الفنية الفعلية لهذا المشروع.
ويُعتقد أن النظام الذي تم وضعه، والذي غالباً ما يُطلق عليه "فالكون آي" [Falcon Eye] ("عين الصقر") قد اكتمل بحلول عام 2016. ويشمل هذا النظام شبكةً من الكاميرات وأجهزة استشعار ومنصات للذكاء الإصطناعي توفّر كافة أنواع البيانات، بدءً من التحكم في حركة المرور إلى المراقبة الحميمة. وأفادت التقارير بأنه في عام 2014 تم استخدام بعض عناصر هذا النظام للقبض على إمرأة جهادية بعد هجوم بالسكين على مُدرّسة أمريكية.
وقد تم السماح لاحقاً لنفس هذا الاتحاد من الشركات المملوكة لإسرائيليين، بالمشاركة في مناقصة على مشروع كان يهدف إلى المساعدة في إدارة تدفق الحجاج إلى مكة المكرمة. وعلى الرغم من عدم نجاح المناقصة، أفادت وكالة "بلومبرغ" بأن السلطات السعودية وضعت في النهاية نظاماً إلكترونياً مماثلاً للنظام المقترح.
كما سعت الرياض للحصول على مساعدة إسرائيلية في معالجة احتياجات سيبرانية أخرى. ففي عام 2012، تسببت عملية ضخمة ضد شركة النفط السعودية العملاقة "أرامكو" المملوكة للدولة بمحو بيانات ثلاثة أرباع حواسيب الشركة (حوالي 30 ألف محطة عمل)، وهي حادثة تم وصفها آنذاك على أنها الهجوم السيبراني التجاري الأكبر في التاريخ. ويعتقد مسؤولو الاستخبارات الأمريكية أن منفذي ذلك الهجوم الذين استخدموا "فيروس شمعون" كانوا ممولين من الحكومة الإيرانية. وبعد مرور سنوات، قال رجل الأعمال الإسرائيلي المتخصص في مجال التكنولوجيا المتقدّمة والمشرِّع السابق أريئيل مارغاليت إلي صحيفة "كالكاليست" إنه تم اللجوء إلى شركات متخصصة في الأمن السيبراني في بلاده من أجل مساعدة شركة "أرامكو" السعودية على إصلاح الضرر، وهي عملية استغرقت شهوراً.
وفي عام 2015، لجأت الرياض إلى الشركة الإسرائيلية "إنتو فيو" [IntuView] للمساعدة في تعقّب الجهاديين على مواقع التواصل الاجتماعي. ووفقاً لوكالة "بلومبرغ"، لبّت الشركة ذلك الطلب باستخدامها برنامج يمكنه مراجعة 4 ملايين مشاركة على موقعَي "فيسبوك" و"تويتر" يومياً. وعلى غرار العديد من الشركات الإسرائيلية العاملة في الخليج، أنشأت "إنتو فيو" شركةً وسيطة في أوروبا لإعطاء السعوديين القدرة على الإنكار. ووفقاً لصحيفة "هآرتس"، حصلت البحرين على نظام مماثل لمراقبة مواقع التواصل الاجتماعي من شركة "فيرينت" [Verint] المؤسسة في إسرائيل والرائدة في مجالها، في وقت ما بعد عام 2011.
من الدفاع إلى الهجوم
الأمر الذي لا يبشر بالخير هو اتساع نطاق عمل شركة "إنتو فيو" مع السعوديين لاحقاً ليشمل مراقبة الآراء العامة حول العائلة المالكة، مع تسليط الضوء على الخط غير المستقر في كثير من الأحيان بين الدفاع والهجوم في المجال السيبراني. وقد تتطلب الإجراءات السيبرانية الدفاعية عمليات عدائية ضد التهديدات المحتملة لتوفير الإنذار المبكر، وتحديد الجهة المسؤولة، وتعزيز الردع. ومع ذلك، فإن هذا يولّد أيضاً نوعاً من القدرات القابلة للاستغلال، بما يشمل ذلك من مراقبة وقمع أي شخص يُعتبر عدواً للدولة.
وبالفعل، تولّد الاحتياجات الملحّة المتعلقة بحماية البنية التحتية، والسلامة العامة، ومراقبة الجهاديين في دول الخليج أشكالاً معقّدة بشكلٍ متزايد من عمليات جمع المعلومات الاستخبارية المتطورة والتأثير على المعلومات ضد المعارضين البارزين، كما ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" في كانون الأول/ديسمبر الماضي. وقد تورّطت إحدى الشركات الإسرائيلية على وجه الخصوص في هذه الحملات، وهي شركة "إن إس أو غروب" [NSO Group] الذي يستطيع برنامجها التجسسي "بيجاسوس" [Pegasus] اختراق أجهزة الهواتف الذكية عن بُعد لتعقُّب التحركات، ومراقبة الرسائل، والتحكّم في الكاميرات والميكروفونات.
ووفقاً لصحيفة "نيويورك تايمز"، بدأت دولة الإمارات علاقتها مع شركة "إن إس أو غروب" في عام 2013، لتطلب من الشركة في النهاية المساعدة في اعتراض الاتصالات من قبل كبار المسؤولين القطريين، وأحد الأمراء السعوديين، ورئيس الوزراء اللبناني. وفي عام 2016، زُعم أنه تم استخدام منظومة "بيجاسوس" لاستهداف المواطن الإماراتي المنشق أحمد منصور. وعلى مدار العامين التاليين، وجد "المختبر المدني" [Citizen Lab] التابع لجامعة تورونتو خروقات مشتبه بها بفيروس منظومة "بيجاسوس" في خمسة وأربعين بلداً، من بينها الجزائر والبحرين والعراق والأراضي الفلسطينية والمملكة العربية السعودية.
وكان موظّفان في "منظمة العفو الدولية" من بين الأفراد المستهدفين في مثل هذه الحوادث، أحدهما يسكن في السعودية. وشكّل عمر عبد العزبز هدفاً آخر، وهو معارض سعودي بارز يسكن في كندا. وقد نشر "المختبر المدني" الادعاء الأخير في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2018، أي قبل يوم واحد من مقتل خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول. وكان عبد العزيز على تواصل مع خاشقجي، وفي دعوى قضائية رُفِعت في تل أبيب، زعم أن المعلومات التي حصلت عليها السلطات السعودية عن طريق منظومة «بيجاسوس» "ساهمت بشكل ملحوظ" في قرارها بقتل الصحفي.
ووفقاً لصحيفة "واشنطن بوست"، أكد العديد من مسؤولي الاستخبارات الغربية أنه تم بالفعل بيع برمجيات شركة "إن إس أو" إلى الرياض من خلال شركة فرعية اسمها "كيو سايبر تكنولوجيز" [Q Cyber Technologies] ومقرها لوكسمبورغ. وعلى الرغم من أنه لم يتم التأكيد بشكل علني على وجود رابط مباشر بين هذه الأدوات وخاشقجي، إلّا أن تقرير صادر عن صحيفة "هآرتس" أكّد مؤخراً أن ممثلين عن شركة "إن إس أو" قد التقوا مع اثنين من كبار مسؤولي الاستخبارات السعودية عدة مرات في عام 2017. وكان الهدف من تلك الاجتماعات التي انعقدت في العديد من المدن الأوروبية هو بيع نسخات متقدمة من منظومة "بيجاسوس" يقال أن قيمتها وصلت إلى 55 مليون دولار. وتجدر الإشارة بشكل خاص إلى أنه في وقت لاحق من ذلك العام، نفذ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عملية قمع واسعة النطاق ضد معارضيه في الداخل. وبعد ذلك ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" أن مساعدَيْن مقرَّبيْن من ولي العهد المتورط في مقتل خاشقجي، توسطا في صفقة "بيجاسوس"، وكان أحدهما قد سافر إلى إسرائيل.
حقوق الإنسان مقابل. الواقعية السياسية
على الرغم أن شركة "إن إس أو" لم تؤكد لائحة عملائها بشكل علني، إلّا أنها كانت قد ذكرت بأنها لا تشغّل منظومة "بيجاسوس" لزبائنها. كما أشارت الشركة إلى أنها تحترم كافة القوانين الإسرائيلية ذات الصلة المتعلقة بتصدير الأسلحة - والتي تغطي الأدوات السيبرانية الهجومية مثل برامج التجسس والأنظمة المحتملة للاستخدام المزدوج - كما هو منصوص عليه من قِبل هيئة تنظيمية تعمل داخل وزارة الدفاع. وبعبارة أخرى، كان سيتعين على شركة "إن إس أو" أن تحصل على ترخيص من الحكومة الإسرائيلية، على الأرجح في أعلى مستوياتها، من أجل بيع هذه الأنظمة إلى دولة عربية. وفي مقابلة أجراها مؤخراً مع صحيفة "يديعوت أحرونوت"، نفى المدير التنفيذي للشركة استهداف خاشقجي من خلال استخدام "أي منتج أو تكنولوجيا من صنع شركة «إن إس أو»"، رغم أنه لم ينكر صراحة أن الرياض هي من عملاء الشركة.
ويشكل الأمن السيبراني أحد قطاع الأعمال الرئيسية لإسرائيل، التي تجني ما يقدَّر بـ 20 في المائة من جميع الاستثمارات العالمية في هذا القطاع وتصدّر ما يقرب من 4 مليارات دولار من المنتجات والخدمات ذات الصلة. ويشمل بعض هذا النشاط - سواء كان مباشراً أو عن طريق شركات فرعية أوروبية - مساعدة حكومات دول الخليج العربي على التعامل مع تحديات أمنية حساسة للغاية. بالإضافة إلى ذلك، تفيد بعض التقارير بأن الشركات الإسرائيلية تتوق إلى الاستثمار في مدينة التكنولوجيا المستقبلية في المملكة العربية السعودية التي ستحمل اسم "نيوم" [NEOM].
ومع ذلك، فإن القدرات التي تنطوي عليها بعض هذه المعاملات قد استخدمت على ما يبدو لتحريض حملات القمع الداخلية ضد المعارضة، مما يعقّد اهتمام اسرائيل الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري الواضح في تطبيع علاقاتها مع الدول العربية. وكما صرّح نتنياهو في الشهر الماضي عندما تطرّق بشكل عرضي إلى الأزمة المتعلقة بخاشقجي: "نلاحظ توتراً مستمراً بين أبسط حقوق الإنسان الأساسية، كالحق بالحياة وحق حرية الصحافة، ولكن على الجانب الآخر هناك أيضاً الواقعية السياسية. وأنا لا أنكر ذلك. هناك دائماً توازن بين الإثنين".
لذلك فإن إرساء التوازن الصحيح أمراً ضرورياً، لا سيما بالنسبة لسمعة إسرائيل الدولية. وبالمثل، تواجه الحكومات العربية تسليطاً كبيراً للأضواء الإعلامية كلما ظهرت أخبار عن مثل هذه العلاقات. وكما أخبر أحد المسؤولين السعوديين البارزين صحيفة "وول ستريت جورنال" في كانون الأول/ديسمبر، بأن التواصل مع إسرائيل "قد فتر تماماً بعد مقتل خاشقجي". وفي المرحلة القادمة، سيتعين على القادة الإسرائيليين والخليجيين التقدم بحذر من أجل حماية روابطهم التاريخية والمزدهرة من مثل هذه الأزمات.