د. شفيق ناظم الغبرا- القدس العربي-
لن تستطيع الأنظمة العربية مهما بالغت في العنف والقمع من منع التغيرات الكبرى التي تعصف بإقليمنا، فالتغير الذي بدأ في 2011 لا يمكن إيقاف زحفه لأنه أصاب العقول كما والقلوب قبل أن يصيب الأنظمة الشديدة المركزية والمفرغة من المؤسسات.
لقد تحول التغير الذي ولد مع 2011، بفضل القمع الشديد، لحالة حرب استنزاف مفتوحة بين الكثير من الأنظمة غير المساءلة وبين مجتمع المواطنين الحالمين بالمشاركة والتنمية والعدالة والحقوق.
كل الذي تستطيع الأنظمة أن تفعله ضد الطوفان القادم هو كسب الوقت. كان من الأفضل منذ البداية أن تتأقلم الأنظمة مع التغير فتطور واقعها وتغير سياساتها العنيفة بأخرى إنسانية.
إن جوهر التغير الذي ضرب العالم العربي وأثر به منذ 2011 يتلخص بالتالي : يطمح كل عربي من المحيط للخليج بحياة كريمة في ظل دولة قانون تؤمن بالمساواة الحقوقية بين الناس.
كل عربي يحلم بعدالة وبحريات وبحقوق ثابتة لا تتغير وفق الهوى السياسي.
وكل عربي يحلم بحكومة مساءلة قادرة على القيام باعباء وطنه.
كما أن كل عربي يحلم بدولة لا ينخرها الفساد ولا تحكم بالقبضة الأمنية وبوسائل التعذيب وإمتهان الإنسان.
في ظل غياب المعادلة العادلة سيزداد انهيار البيت العربي بينما يصبح دور الخارج أكثر فعالية. ففي كل النزاعات تبرز ظاهرة متكررة مفادها أن غياب العدالة في ظل القمع يؤدي لضعف الدولة وتفككها ولإرتفاع دور الخارج بنفس الوقت.
لقد اعتبر النظام العربي بأن الحل الامني هو الأهم في التعامل مع مطالب الشعوب، لهذا تطرح بعض الانظمة التحالف مع الصهيونية ضد إيران، وللتحالف مع كل ما يساعدها على قمع الشعوب بفعالية اكبر.
في التاريخ ايضا تحالفت الثورة الروسية السوفياتية اثناء الحرب مع المانيا (عدو روسيا الأول في الحرب العالمية الاولى)، وتحالفت الثورة الأمريكية مع فرنسا ضد استعمار بريطانيا لامريكا، وتحالفت المعارضة العراقية قبل 2003 مع الولايات المتحدة للتخلص من نظام صدام.
هكذا مع الوقت يصبح عدو العدو صديقا، وهذا لسان حال كل الاطراف في النزاعات المدمرة. فالنظام السوري مثلا تحالف مع روسيا وإيران، والمعارضة سعت لنيل دعم كل طرف عربي ودولي.
إن الصراع الصفري الذي تقوم به الأنظمة العربية مع المواطن ومع المعارضات سيتحول مع الوقت لصراع إقليمي ودولي. إن عدم مقدرة الانظمة على التحالف مع المواطن ومع معارضاتها الوطنية سيدفع نحو تمكين الخارج على حساب الداخل.
وهو سيدفع بالمعارضات ايضا لبناء تحالفات مع الخارج، مما سيصب لمصلحة إيران وتركيا. فكلا البلدين لديهما ما يكسبانه من جراء تراجع الأنظمة العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة والمستعدة للتحالف مع اسرائيل لقاء مواجهة إيران.
إن المدخل لحماية البيت العربي من تقلبات العالم يقع في معاملة الشعوب والانفتاح عليها من البحرين للقاهرة ومن الخليج للمحيط. البديل عن المصالحات والتفاهمات والانفتاح الحقوقي هو الفوضى.
في ظل النظام العربي المتوتر أصبح السجن المكان الذي يحوي كل من يعبر عن رأيه، وأصبح القمع هو مصير كل من سار في الشارع مطالبا بالتغير، وأصبح الاختفاء هو مصير كل من استمر بالمجاهرة برأيه.
لهذا بالتحديد لم تكن قضية الشهيد جمال خاشقجي حالة معزولة، بل جزء من نهج إتبعته العديد من الأنظمة العربية. ولو أردنا استعراض التاريخ، سنجد بأن الوسائل التي تقتل وتغتال وتسمم مستمدة من التقاليد التي أرساها قادة عرب سابقون كالقذافي وصدام والأسد وغيرهم.
يصح القول بأن النظام العربي يسير، بخطوات سريعة على خطى الجمهوريات السابقة.
إن حالة القمع التي تمارسها أنظمة عربية شتى ستؤدي لمزيد من العنف والانتفاضات والمفاجآت. فالطريق الراهن سيؤدي لفشل العديد من الدول وسيحد من مقدرتها على القيام بوظائفها.
لقد صنف النظام العربي، في معظم الحالات، المواطنين لقبائل وطوائف وقوميات، وطبقات، وأسر حاكمة وأخرى غير حاكمة.
أخطر ما في التصنيف أن النظام نزع عن المواطنين صفة المواطنة. وهذا يعني عمليا ان النظام العربي الراهن مدموغ بتحكم الأقلية بالأغلبية وبسعيه لتهميش أكبر عدد من المواطنين سجنا أو قتلا او او تهجيرا.
في النظام العربي لازالت قيم الدولة مستمدة من اليونان القديمة (قبل الميلاد) حيث تتواجد طبقة الأشراف وطبقة العبيد وطبقة الفلاحين. في ذلك الزمن سادت حالة من الديمقراطية بين طبقة الأشراف، بينما أعتبر الآخرون بلا حقوق.
في القرن الواحد والعشرين لازال ذلك النظام القديم يسيطر على تفكير النخب العربية. إن أغلبية النخب العربية تنطلق من حقها السياسي في الحكم وتنطلق من عدم توفر حقوق سياسية للمواطنين.
ان الحق السياسي هو أساس كل الحقوق، لهذا فأن غياب قدرة الدولة والنظام على فهم هذا الحق في إطار مكانة المواطن، سيوسع من دائرة الحرب الطويلة بين الدولة وبين حقوق المواطنين، ستخاض هذه الحرب حتى الرمق الأخير.