عامر ذياب التميمي- البيت الخليجي-
غالباً ما يثير أهل الاقتصاد التساؤلات حول جدوى الإنفاق على التسلح، وما إذا كان بالإمكان توجيه الأموال التي تنفق على شراء أو صناعة التسليح إلى قنوات ومجالات التنمية الأساسية وبناء اقتصادات متحررة من توجهات العسكرة. ربما، لكن كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل الصراعات الدائرة في عالمنا هذا، والتوجس المستمر بين الدول؟
لا شك أن التسلح والإنفاق على العسكرة في بلدان عديدة قد أديا إلى تدهور أوضاع اقتصادية في بلدان رئيسية. كما مهد ذلك لسقوط أنظمة سياسية عمرت لعقود طويلة. وظف الاتحاد السوفياتي أموالًا معتبرة في الصناعات الحربية وأقام مؤسسات عسكرية مهمة وعمد إلى التدخل خارج الحدود. ومع ذلك، لم يتمكن السوفييت من بناء اقتصاد متماسك يلبي متطلبات وتطلعات الشعوب السوفياتية ويحقق المطالب الاستهلاكية الأساسية. ولذلك؛ يؤكد سقوط النظام السوفيتي وعدد من البلدان الواقعة في أوروبا الشرقية بأن التنمية الاقتصادية هي أهم عناصر استقرار الأنظمة السياسية.
ثمة بلدان رأسمالية مثل الولايات المتحدة والتي تخصص حكومتها الفيدرالية ما لا يقل عن 600 مليار دولار سنوياً لموازنة البنتاغون، وزارة الدفاع، تواجه بين الفينة والأخرى معضلة الموازنة بين المتطلبات الاجتماعية والالتزامات تجاه التعليم والرعاية الصحية والالتزامات تجاه أصحاب الدخول المتدنية والمحدودة وبين متطلبات الإنفاق العسكري لدولة تعتبر الأهم والأكبر أهميته في خارطة العالم ومواقع النزاعات الأمنية والعسكرية.
تورطت دول الخليج في نزاعات ليست من صنع أيديها حيث تعرضت لمخاطر أمنية وعسكرية من دول الجوار على مدى العقود الماضية. منذ استقلال الكويت عام 1961 بدأت مطالبات رئيس الوزراء العراقي الراحل عبدالكريم قاسم بعد استقلال الكويت مباشرة في التاسع عشر من يونيو /حزيران عام 1961 بضم الكويت إلى العراق. وهو ما دفع الكويت للاستنجاد ببريطانيا ثم بجامعة الدول العربية لحماية استقلالها. لا شك أن تلك المطالبة دفعت الكويت وبلدان خليجية أخرى لتخصيص أموال مهمة في ميزانياتها للإنفاق العسكري، وقد مكنت إيرادات النفط المتزايدة من مواجهة تلك الالتزامات. ولم تهدأ الأمور كثيراً حيث أن الحرب العراقية الإيرانية دفعت بلدان الخليج إلى التحسب للمخاطر التي نشأت بعد الثورة الإيرانية وانتصار رجال الدين وإسقاط الشاه في فبراير/ شباط عام 1979، حيث كان الخطاب السياسي للنظام الجديد معادياً للاستقرار وللأنظمة الخليجية ومهدداً بتصدير الثورة.
ساهمت بلدان الخليج في دعم العراق ودفعت أموالًا طائلة على شكل قروض ومعونات لتمكين النظام العراقي آنذاك من مواجهة إيران. ما إن انتهت الحرب العبثية حتى قام صدام حسين بغزو الكويت واحتلالها. لم يكن مستغرباً أن تخصص دول الخليج الأموال اللازمة لدعم الجهود العسكرية لدحر الإحتلال العراقي من قبل القوات الأمريكية والدولية. تقدر التكاليف المباشرة لحرب تحرير الكويت بحوالي 77 مليار دولار، هذا بموجب تقديرات الإدارة الأمريكية بعد نهاية تلك الحرب عام 1991، وقد تحملت دول الخليج الجزء الأهم والأكبر من تلك التكاليف.
لم تنتهي الأزمات الأمنية في منطقة الخليج واستمر حصار العراق على مدى عقد “التسعينات” وتعنت النظام السابق مع الأمم المتحدة حول التفتيش على الأسلحة وعدم الاتسام بالشفافية حول ما يملك من أسلحة نووية وبيولوجية وكيميائية. وبالرغم أن المبالغات في قدرات العراق كانت حاضرة إلا أن طبيعة ذلك النظام وعدوانيته مهداً لإتخاذ الولايات المتحدة وحلفائها قراراً بغزو العراق وإسقاط النظام في عام 2003.
لا شك أن تغيير النظام العراقي أزاح عبئاً أمنياً مهماً بالنسبة لدول الخليج العربي إلا أن تداعيات سقوط النظام والانتقال إلى نظام جديد يفترض أن يكون ديمقراطياً لم تنجح في تعزيز الأوضاع الأمنية في العراق أو البلدان المجاورة بعد أن برزت منظمات إرهابية متطرفة نفذت أعمالًا إرهابية متنوعة في العراق والسعودية والكويت خلال العقدين الماضيين. يضاف إلى ذلك أن أطماع إيران بمد نفوذها في بلدان المنطقة لم يكن له ضوابط حيث عمدت إلى تشجيع قوى موالية لها في العراق ولبنان واليمن، ثم سوريا خلال السنوات الثماني الماضية. كما أن بروز دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وتمكنها من إحتلال أراض واسعة في سوريا والعراق عام 2014 قد خلق بيئة أمنية صعبة فرض أهمية المواجهة العسكرية والاعتماد على الولايات المتحدة لهزيمة هذا التنظيم الصعب والشرس. وغني عن البيان التأكيد على أن البيئة الاجتماعية في العديد من بلداننا خلقت حواضن لمثل هذه القوى المتطرفة.
الصراع في اليمن وما يمثله من تهديد للنسيج الاجتماعي والأوضاع السياسية هناك ولدول خليجية فرض خيارات صعبة على دول الخليج ودفعها إلى المواجهة العسكرية المستعرة هناك حتى يومنا هذا. كل هذه العوامل أوجدت المبررات للإنفاق العسكري من قبل دول الخليج. وقدرت الأموال التي أنفقتها دول الخليج على التسلح خلال عام 2017 فقط ما يتراوح بين 95 إلى 128 مليار دولار. وذلك بحسب تقديرات دراسات “مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية”.
إن هذا الإنفاق الضخم يحرم دول الخليج إمكانيات توظيف هذه الأموال في استثمارات ومشاريع إستراتيجية تعزز التنمية وبناء اقتصادات ذات قاعدة متنوعة نحو التحرر من الاعتماد على النفط. كان التحدي الأزلي لدول الخليج، وما يزال، هو كيف يمكن تحويل إيرادات النفط إلى ثروة جديدة توفر إيرادات من مصادر أعمال منتجة ومتنوعة. معلومٌ أن الإنفاق على التسلح والعسكرة يمثل هدراً هاماً للأموال، وأن الحوار والتصالح مع دول الجوار وخلق أوضاع اجتماعية وسياسية ملائمة في بلدان المنطقة يمثلان أفضل الخيارات والسياسات لدعم جهود التنمية والاستقرار والإزدهار الاقتصادي.
لكن هل يمكن أن تتجاوب بلدان الجوار أو أن تتمكن من خلق أوضاع سياسية إيجابية ومتناغمة مع طموحات شعوبها وشعوب بلدان الخليج؟ هذا هو السؤال المهم الذي يمكن أن تحدد الإجابة عليه مدى توفر الفرص المناسبة لتقليص الإنفاق العسكري وتخصيص الأموال للتنمية المستدامة.
تكمن معضلة بلدان الخليج في هشاشة ديمغرافيتها حيث يبلغ عدد سكان دول مجلس التعاون الست ما يربو على 55 مليون نسمة. بيد أن هذا الحجم السكاني يضم ما يقارب 26 مليون وافداً من بلدان أخرى، اي ما يعادل 50 في المئة من السكان. وتتفاوت التركيبة السكانية حيث يمثل الوافدون 40 في المئة من سكان السعودية ولكن ترتفع النسبة إلى 70 في المئة في الكويت وقد تصل إلى 90 في المئة في قطر والإمارات. في الوقت ذاته، تجاور هذه البلدان كل من إيران والعراق واليمن حيث يبلغ عدد سكان إيران 81 مليون في حين يبلغ عدد سكان العراق 38 مليوناً ويقارب عدد سكان اليمن 28 مليوناً.
غني عن البيان أن سكان البلدان المجاورة بأعدادهم الكبيرة يمثلوا مصدراً هاماً لدخل الاقتصادات الخليجية لو توافرت فرص الاستقرار والإنتعاش الإقتصادي في هذه البلدان وتعززت آليات سياسية ديمقراطية مواتية فيها، لكن إستمرار عدم الاستقرار وتنامي أوضاع الفقر والتهميش فيها قد يعزز البحث عن مبررات للصراعات الخارجية لدى السلطات الحاكمة في هذه البلدان.
المفترض هو أن تتفاعل هذه البلدان مع بلدان الخليج إيجابياً وأن تتعاون من أجل بناء منظومة اقتصادية متناغمة توفر الأعمال والأنشطة التي تخلق فرص العمل وتحسن الأوضاع المعيشية وترتقي بمستويات الحياة ونوعيتها.
تظل بلدان الخليج من أهم البلدان المنتجة للنفط والذي لا زال مصدراً هاماً لتوليد الطاقة بالرغم من التحديات الحاضرة والمستقبلية التي تواجهه ضمن اقتصاديات الطاقة. ولذلك، يجب أن يكون الاهتمام باستقرار المنطقة من أولويات السلطات الحاكمة والدول المتحالفة معها مثل الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي والصين واليابان. ويتعين توفير الضمانات الإستراتيجية لحماية بلدان المنطقة من كافة المخاطر الأمنية المحتملة والإقليمية.
إن من شأن دفع بلدان الجوار نحو تحسين أوضاعها السياسية وتطوير أنظمة ديمقراطية مسالمة والإهتمام بالسلم الأهلي والتركيز على التنمية الإقتصادية، أن يوفر ضمانات أمنية بعيدة المدى لدول الخليج ويمكنها من ترشيد الإنفاق العسكري وتعزيز الإنفاق الرأسمالي التنموي.
ثمة فرص كبيرة متاحة بالرغم من تراجع أسعار النفط واضطرار دول المنطقة للاقتراض لتمويل عجز الموازنات في الوقت الراهن. بلغ الناتج المحلي الإجمالي لدول مجلس التعاون الخليجي في عام 2017 ما يربو على 1.5 تريليون دولار، وهذا الناتج يمكن أن يمثل قدرات مهمة لبلدان الخليج لتطوير أنظمة اقتصادية عصرية وأن يوفر إمكانيات كبيرة للتعاون المستمر مع بلدان الجوار.
السؤال: هل يمكن لبلدان المنطقة كافة أن تستوعب هذه الفرص الإيجابية المُهدرة؟