عادل مرزوق- البيت الخليجي-
تورد الطبيبة وصانعة المحتوى على الانترنت إيمان الإمام في برنامجها الشهير “الاسبتالية” على اليوتيوب، قصة المواطن الأميركي راسل وستن الذي قام في 24 يوليو/تموز 1998 بدخول مقر الكونغرس مطلقاً النار على رجلي أمن، قبل أن يتم القبض عليه.
لم تكن مشكلة راسل وستن أن برر فعلتهُ بغرضِ “حماية أميركا من هجوم آكلي البشر” كمريضٍ بالفُصّام، لكن في رفضه الاتهام بالجنون، وهو ما حاول محاموه الدفع به للدفاع عنه. كان راسل مصابًا بمرض نادرٍ يُطلق عليه “أنسوجنوسيا – مرض الجهل بالمرض” Anosognosia، ويعمد المصاب بهذا المرض إلى “نفي أي اختلالات أو أمراض أو عاهات يعاني منها، وهو نفي حقيقي غير ناتج عن شلل دماغي أو فقدانٍ للوعي، بل لا يقتضي أن يكون المريض مجنونًا”. (1)
الأقوياء الخائفون
بقدرِ ما يُرَادُ لك أن تفهَم أو أن تقتنِعَ بقوةِ ورباطة جأش وأنفةِ وثباتِ المواقف لمُختلفِ المحاور الإقليمية المُتصارعة في منطقة الخليج والشرق الأوسط؛ سواءًا، محور (الإمارات والسعودية ومصر)، أو محور (قطر – تركيا)، أو محور الممانعة (إيران والعراق وسوريا)، بقدرِ ما يجبُ عليك أن تفهَم، بل وربما أن تتأكد، من أن جميعها – دولًا ومحاور – يُكابد خوفاً متوارٍ، ويقتلهُ قلقٌ كامن.
ولئن كان الإقليمُ الذي تعرضت توازُناته ومناطق نفوذ الفاعلين الرئيسيين فيه لاهتزازت وازنة وصولاً لصراعاتٍ مُسلحة بدءاً من العام 2011م قد أثبت مَنعتهُ وصلابته، إلا أن دول الاشتباك لا تزال حتى اليوم تُشكلُ أفهامها وترسُم سياساتِها انطلاقًا من منظور “الأزمة المستمرة” ومجموع المخاوف والشكوك المتراكمة تجاه بعضها البعض، على أن ذلك لا يمنعُها – في الوقت ذاته – من سرد ما تعتبرهُ منجزاتٍ وانتصاراتٍ تستحقُ الاحتفاء والزهو.
فيما نرصد كثافة لمفاهيم مثل دعم حركات الشعوب الطامحة في التغيير وثورات الربيع العربي في خطاب العاصمة القطرية الدوحة، سياسيًا ومؤسساتيًا، يُقابِل هذه الكثافة مفاهيم ومضامين مضادة في خطاب الرياض وأبوظبي والقاهرة، وهي عواصم تدور مكنتها الدبلوماسية والإعلامية – بل والحربية أيضًا – في فلك شيطنةِ الإسلام السياسي، مكافحة التطرف والإرهاب ودعاة الفوضى. ورغم ذلك، جديرٌ بالإهتمام مُراقبة أن هذه الخطابات المُتحاربة لا تنعكس صراعًا حقيقيًا على الأرض، تمامًا وكأننا في مسرحية يقرأ الممثلون فيها نصاً لا يتطابق وتفاصيل الأحداث التي تدور أمام المشاهد.
وإذ ترتكز كل دولة من دول الخليج على “سردية” خاصة – تشرح وتفسر ما حدث ويحدث – في تبرير خياراتها وميولاتها وانزياحاتها، يُمكِنُنا – غير مُتكلِفين – انتخاب سمة “الخوف” وواقع “انعدام الثقة” قاسماً مشتركاً بينها، سواءًا فيما تستند عليه هذه السرديات من حقائق أو فيما يشوبها من تناقضات. هذا “الخوف” و”الإرتباك” الذي يَستَتِرُ في شكل عناوين وخطابات تبدو متماسكة وحاسمة في مستوى الخطاب السياسي والإعلامي، لا يلبث أن تظهر ارتباكاتهُ ومخاوفهُ جليًة ومفضوحًة حين نُحاولُ تفكيك وفهم سلوكيات وردود فعل هذه الدول في عديد المواقف والاختبارات على الأرض.
الخوف: الصناعة المربحة
وكما أن صناعة الخوف، كانت ولا تزال، آلية وأداةً تاريخية تستخدمها الأنظمة السياسية الديكتاتورية في سبيل إخضاع الأفراد وترهيب مؤسسات المجتمع، هي أيضاً صناعة تستخدمُها الدولُ الكبرى لذات الغرض والأهداف.
تأسيسًا، يُدركُ المتحالفون في أي حلف، أن قرارات الإرتباط وشبكات بناء وتشبيك المصالح السياسية والاقتصادية بين الحلفاء مرهونة ببقاء موضوع وسبب “التحالف” قائمًا وفاعلًا في وعي الأطراف المُتحالفة. ولعل هذا ما يُفسر لنا جزءاً غير يسير من تعقيدات المشهد ومتناقضات هذه اللحظة، خصوصاً ما يتعلق بسياسات واشنطن وموسكو في منطقة الخليج والشرق الأوسط. غنيٌ عن القول التأكيد على أن في تعزيز هذه مخاوف الأطراف الضعيفة في أي حلف، بل وتضخيمها، مكاسبُ كبرى وضمانات كافية لثبات هذه التحالفات وديمومتها، وبالتالي استمرار مصالح الأطراف المُستفيدة منها.
تؤسس مشاعر الخوف المتنامية في مختلف العواصم الخليج على جانبيه، إلى حالة من التّوتر والقلق وصولاً إلى انعدام القدرة على التّحكم بردود الفعل في ادارة ما يستجد من ملفات. الأهم من ذلك، تدفع هذه الحالة المرضية تلك العواصم إلى ما يشبهُ التباري في بناء الشراكات والتحالفات الاقليمية والدولية، يتمظهرُ ذلك اجرائياً في تسابق تنسيق المواقف وتقوية التحالف مع واشنطن، موسكو، وحتى تل أبيب. وتفترضُ كل عاصمة أن هذه التحالفات والتشبيكات هي “الخيار الاستراتيجي الفاعل” و”الخطة الناجحة” في حسم معارك الإقليم لصالحها، أو على الأقل، في دفع الأخطار والتهديدات المُحدقة. وهو على أي حال، ما لا يحدث حتى الآن.
استنزاف الدول والحربُ المُتخيّلة
لا يمكن القطع بأن حصيلة تحولات العام 2011 وصلت خواتيمها. لا يمكن أيضًا، غض الطرف عن الأزمات الداخلية في كل دولة وحساباتها، أو تجاهل مفاعيل الصراعات التاريخية ومشاريع مد النفوذ والهيمنة. إلا أن دول المنطقة – المسكونةُ بالخوف وشبح الحرب وعناوين الحزم والحسم – تتورط في التعامل مع ما يستجد بالرهان على استنزاف مواردها فيما أسميه بـ “السيناريوهات السهلة”. من شواهد هذه السيناريوهات المُعاشة خلال الأعوام الماضية (حرب خاطفة في اليمن لن تستمر أكثر من أسبوعين/ عشرة أيام حتى تستجيب الدوحة لمطالب دول السعودية والإمارات ومصر والبحرين/ اجتماعات في الأسرة الحاكمة السعودية لإزاحة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان/ تقديم شخصية مغمورة من أسرة آل ثاني سيطيح بأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني).
منذ نجاح الإنقلاب العسكري في مصر منتصف عام 2013م، وهو المكسب الوحيد واليتيم لمحور (الرياض/ أبوظبي) وحتى اليوم، تستنزف دول المنطقة الخائفة – دون وعي – ثروات طائلة في صراعات وسيناريوهات ركيكة ومرتبكة. الأكثر من ذلك؛ تتنكرُ جميعُ العواصم الخليجية لحالة الإرتباك والخوف والقلق، وتغلفُ نفسها بمجموعةٍ من سياساتِ القوة والاستعراض المبنيةِ على سيناريوهات بعيدة الأهداف، هشة المحتوى، وفي أغلب الأحيان؛ مستحيلة التنفيذ.
وخلاف ما خلفتهُ وتُخلفهُ سياسات دول الخليج من احتراب اجتماعي مفتوح بين شعوبها، تُنفقُ دول الخليج مليارات الدولارات على صفقات التسليح (دول الخليج العربية)، والصناعات الحربية (إيران)، وحروب الدعاية السياسية وجماعات الضغط في العواصم الغربية، كما وتسببت حرب اليمن في كارثة انسانية هي الأكبر منذ بدأ الألفية الجديدة، وأخيراً، تراجعت تلك المكتسبات الضيقة من الحريات السياسية والاعلامية في جميع دول المنطقة، كل ذلك في خضم وعلى حساب معركة مصيرية وحرب حاسمة؛ لا يراها أحد.