العربي الجديد-
تاريخ الخليج العروبي والحضاري لا علاقة له بمنظومة الدولة السعودية.
معقل الدولة السعودية، وهو إقليم نجد، كان مركزاً فرعياً لمتصرفية الإحساء.
تحرير قضية الانتماء الاجتماعي لعرب الخليج سياقٌ تاريخيٌّ ينبغي ربطه بالمنطقة ولا يُقبل إخضاعه لتوظيف سياسي.
تزامنت قراءتي كتاب الباحث القطري علي الهاجري، "السلطنة الجبرية عهد أجود بن زامل"، مع زيارة متحف قطر الوطني، الجديد الممتع، والذي افتتح أخيراً، وبدأَ مرحلة معروضاته التي قد تُجدّد مستقبلاً.
وقد أسس المتحف، في قسمه الوطني، لبنيةٍ سياسيةٍ، تعاملت مباشرةً مع الهجوم التاريخي والاجتماعي، بعد قرار محور أبوظبي الاجتياح العسكري، وانعكس هذا البعد السياسي المؤلم على مشاعر الضمير الوطني في قطر، حكومةً وشعباً في المتحف.
وقبل الاستطراد، أُشير إلى تفهمي هذا التوثيق في ظل ما تعرّضت له قطر، وإن لم نتمنّ يوماً أن تُستدعى حروب الخليج الداخلية زمن المشيخات، وإن كنتُ قد حملتُ وجهة نظر شخصية، بناءً على اهتمامي بتاريخ الخليج العربي، اختَلفتُ فيها مع الطرح الذي تبنّته الدوحة قديماً، مراعاة لموقف الدولة السعودية، فالمرجع العروبي الأصلي هو الأوضح والأقوى لقطر، قومياً وإسلامياً.
ولا يمنع ذلك من ثبيت علاقة استقرارٍ حذر مع النظام السعودي مستقبلاً، بعد تصحيح موقفه، تقوم على احترام السيادة، وتدوين التاريخ الاجتماعي، بحسب أصول الشعب العربي في قطر وانتمائه لمحيطه التاريخي، وليس لنظام الحكم السعودي.
وهذا لا يمنع من فهم التحول في المدرسة السنية، للشيخ المؤسس قاسم آل ثاني، من مدرسة الإمام مالك إلى مذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وعزلها عن أي توظيفٍ سياسي سعودي، فبقاء المنهج السلفي، واحترام تعبد غالبية الشعب، وطلبة علمه، ومكانته في الضمير الاجتماعي الوطني اليوم، أمرٌ طبيعي.
وكانت الأسرة الاميرية الكريمة قديماً تعتمد مذهب مالك في فقهها، تبعاً لعمقها العروبي الإسلامي الذي ساد مع الحكم العروبي السُنّي للإقليم، وبرز هذا البعد للخليج في صراعه مع البرتغاليين، ونفوذ فارس القوي.
وهذا بالضبط ما نجح في تحريره علي الهاجري، في الكتاب الذي صدر عن جامعة حمد بن خليفة، وهي الدار التي أصدرت رواية "الشراع" الناجحة روائيا، للصديق عبد العزيز المحمود.
لكنها تضمنت إساءة بالغة لتاريخ الخليج العربي وسلطنة الجبور، بناء على أسطورةٍ فارسية، وردت ضمن السياق الصراعي بين البعد الفارسي لسلطنة هرمز وعرب الخليج. وقد أكد لي المؤلف سابقاً أن المقصد هو البعد الدرامي، غير أن المشكلة أن بعض البعد الدرامي يؤثر على وعي التاريخ.
الأمر الأهم هو حصيلة المسح الجيد للدكتور الهاجري، كملخص أولي عن هذا الزمن، وربطه بالتاريخ الاجتماعي لقطر. وهنا يبرز لنا مسار مهم لا بد من تحريره، أن تاريخ الخليج العروبي والحضاري لا علاقة له بمنظومة الدولة السعودية. وهنا نحتاج إلى تفصيل، لكون القارئ العربي لم تتح له الفرصة لفهم العمق العروبي لأهل الخليج.
معقل الدولة السعودية، وهو إقليم نجد، كان مركزاً فرعياً لمتصرفية الإحساء، وفي التاريخ العربي القديم والحديث إقليم عربي مشهود في أدبهم ورمزهم، غير أن الإقليم مرتبط سياسياً مع مركزية شرق الجزيرة، وكان يرجع في كل تاريخ الدول إلى الساحل الخليجي، بحكم أنه هضبة صحراوية قاحلة.
وهذا ليس مرتبطاً بالتنظيم الإداري للعثمانيين، بل بالتاريخ العربي والدول الرئيسية المتعاقبة عليه، وخصوصاً الدولة العيونية ودولة الجبور، وهذه دولٌ انتهت في التاريخ السياسي، وليس لها جسم عودة مطلقا، وإنما تمثل تراتبية تاريخية لأهل الخليج العربي، وهذا لا يعني تقسيم الوحدة الاجتماعية لشعوب المنطقة، وإنما فهم المرجعية التاريخية للخليج.
وهو الساحل الذي احتضن الحضارات القديمة، دلمون والفينيقيين والعماليق والفراعنة، وجوداً وعبوراً، وكانت نجد في موقعٍ فرعي تابع، لا أصل يرجع له الساحل، بوصفه حقيقة تاريخية.
ولذلك، فإن تحرير قضية الانتماء الاجتماعي للشعب العربي في الخليج، منذ ميراثه الحضارات القديمة، واستيطان قبائله العربية، ثم تلقيهم الرسالة الإسلامية، وإيمانهم بها قناعةً وسلما في معقلهم بجواثا عبد القيس، هو سياقٌ تاريخيٌّ مهم أن تُربط به المنطقة، ولا يُقبل أن يخضع لتوظيف سياسي حديث.
وقد حدد هذا المسار المؤلف، في تحقيقه عن إقليم قطر ضمن السلطنة الجبرية، وما قبلها وما بعدها، قبل دخول السلطنة العثمانية، وأدوار الصراع بينها وبين الحكم السعودي، وقبل حركة التحول في إخضاع بعض منطقة الخليج العربي لسلطة الهضبة النجدية، والذي لم يستقر مدة ثابتة إلا بعد الدولة السعودية الثالثة.
المهم هنا أن العمق القديم المتجاوز أطر الدول الحديثة هو المسار الطبيعي لتاريخ المنطقة، والصراع مع فارس في طرف الخليج الآخر، أو مع هرمز، لا نطرحه صراعا قوميا، وإنما تاريخا عربيا، ولموقفهم المؤسف من دعم الحملات البرتغالية الصليبية التي مثلت مقاومة أهل الخليج العربي لهم ركيزة لتاريخهم، من عُمان جنوباً حتى البصرة شمالا، وشارك إقليم قطر، ضمن سلطنة الجبور في هذه المهمة.
أعاد الكتاب الربط الطبيعي للتاريخ، مع وجود ملاحظاتٍ ربما فاتت المؤلف، بسبب نقص المعلومات، أو عدم الاطلاع على ما يكفي، لفهم تنظيم المصطلحات الإدارية، ومعناها التاريخي، لكنه أساس مهم للتوجه القطري الجديد.
ولا نضع هذا التوجه في إطار سياسي مرحلي، ولا ضمن المناكفات التي أشعلتها أزمة الخليج وتهديد قطر، وإنما في تنظيم السياق القومي والإسلامي لعرب الخليج في إطاره الصحيح، والذي هُمش زمناً طويلاً.
وهذا لا يمنع من تنظيم علاقة الأطراف الخليجية، عبر مصالح واعتراف بالسيادة، وعلاقة المنطقة مع إيران، عبر احترام السلام والاستقرار والمصالح المشتركة، والتي مثّل الصراع بين إيران ومشروعها التوسعي الطائفي، والمشروع الطائفي الوهابي، مدخلاً عزّز تمكين الغرب من نفوذٍ مطلق في منطقة الخليج..
ثم نكسة حزيران الخليجية التي حلب منها الغرب بقية ثروة المنطقة، وتم تقاذف هوية المواطن العربي، بحسب موقع الصراع، فأُسقطت العروبة والمواطنة الحقوقية، وغابت نهضة الإنسان، باسم تقديس الحكام.