مهنا الحبيل- العربي الجديد-
تعود الاشتباكات الفكرية وعدم الثقة بين أطياف الفكر العربي في الخليج دورياً، وهي تتسبب في حالة توتر واضطراب، تؤثّر على احتقان المجتمع، ومنع تقدّمه الدستوري والحقوقي وتضامنه الشعبي العام، وهي معضلةٌ قائمةٌ لن تُحل، من دون الخروج من مأزق تلك الصراعات المعقدة التي عزّزت الفشل السياسي، فإن ذهنية الشاب العربي في الخليج، وسكينة وجدانه، ومفاهيم الميثاق التضامني للشعوب، ستظل رهينة موقف الصراع الذي لا حاجة لاستدعائه، بقدر الحاجة لنقده الموضوعي. ويشير الكاتب هنا، من موقعه البحثي المستقل، إلى ثلاث مسائل في تاريخ القوميين في الخليج العربي، من الظلم إغفالها، مع أهمية نقد تشدّد متطرفّيهم الأيديولوجي ضد الإسلام رسالةً، فتعميم النقد يسقط كفاحاً مستحقَ التسجيل لتاريخهم الوطني وشراكتهم الإنسانية، بغض النظر عن الخلاصات النهائية لتفكيك التجربة، والوقوف مع دروسها الكبيرة.
وأول ما يمكن الإشارة إليه حين تحوّلت الحركة القومية في الخليج عن مفهوم الصراع الأزلي مع أنظمة الحكم، وفقاً للعقيدة الأيديولوجية لأحزاب المركز، والذي قام على عنصري مراجعة ذاتية، انطلق ابتداءً في جسم فريق ثالث في صفوفهم، الأول قناعة وجدانٍ كُتب بعضها، وبعضها لم يدون، وإنما باح به مناضلو الحركة القومية في رحلتهم الصعبة، من السجن إلى المشاركة، في مدونات أدبية أو مجالس خاصة. وهو الفصل بين الفكرة القومية ومشروع التوظيف السياسي للأحزاب الحاكمة في العراق وفي سورية وفي مصر لقوميي الخليج، حيث شعر المناضل العروبي بإشكالية فراغ ضخمة، وخسائر في الوجدان الشعبي، بعد تضحياتٍ كبرى قدّمها باسم التضامن العربي، جُيّرت للأيدلوجية الحزبية القومية، ولم تستفد منها شعوب الخليج العربي.
أما الثاني فهو الحرج من التمييز الاحتقاري الذي ظل قائماً منذ غذّته الحركة القومية العقائدية ضد شعوب المنطقة، وهي إشكالية عنصرية تقسيمية صعبة، لم تقف عند القوميين، ولكنها امتدّت داخل الحالة الإسلامية، وإنْ كانت مفاهيم الروح الإسلامية خفّفت منها. ويلاحظ هنا أن هذه المشاعر سبقت الواقع الثقافي المعاصر الذي قدّمته الأزمة الخليجية في أسوأ صوره، في تنمر بذيء ومنحط، نحو الأشقاء العرب المقيمين أو الوافدين لأعمالهم، فجزء من النظام السياسي في الخليج استغل خطاب الكراهية نحو عرب الخليج، كوقود إعلام فتنوي بين أقاليم الوطن العربي، ليُغطي انتقاله إلى علاقة أكثر التحاماً مع الإمبريالية أو الكيان الإسرائيلي. في المقابل، نجح هذا الخطاب في إعادة روح الكراهية، ومشاعر الاستعلاء على الشعب العربي في إقليم الخليج، بناء على موقف منظومته الحاكمة، وتزامن مع حصادٍ متزايد لصالح المشروع الطائفي لإيران، فاختلط الحابل بالنابل، وهو اليوم مأزقٌ مستمر، في ظل الشعوبية التي ترتفع ضد العرب اليوم في تركيا. وأضحت قضية اللاجئين خارج محطة أي تضامن إنساني، بل ضيق وتذمر شرس من أبناء الشعب التركي. ويلاحظ كيف أصبح الرئيس التركي، أردوغان، نفسه يردّد ضرورة الخلاص منها عاجلاً، ضمن مسار صراعي شرس للمستقبل السياسي التركي، وباتت الشعوبية الأخرى في الثقافة الإيرانية الحديثة أكثر تمكّناً، وتوظيفاً طائفياً.
وهنا يلاحظ كيف أن هذا المأزق في العنصريات العربية يحمل، ذاتياً، إرثاً من الفشل والخزي، مما يتعرّض له العرب، في كل وطن عربي يلجأون له، سواء كتشريعات قانونية أو خطاب عنصري، أو تحريض اجتماعي من لبنان إلى الأردن إلى ليبيا، أي أن إشكالية الوباء العنصري واسعة جداً، وليست مرهونةً بالتصنيف الفكري ضد شعب الخليج العربي، وإن تَميّز خطاب بعض أنظمة الخليج، وقواها الإعلامية المعلنة أو الموظفة بفداحة تعبير قذرة.
كانت لهذا البعد في حينه جذور في قرار التحول الواقعي، لتيار وشخصيات من عروبيي الخليج، رأت أن واقع الاحتياجات الشعبية للوطن الإقليمي يتراجع، وتتمكّن منه أفكار وتوظيفات أخرى، ويفتقد إلى أساسيات للدولة المدنية الحديثة، منذ منتصف الخمسينيات حتى نهاية السبعينيات. ويمكن إيجاز مساهمات عروبيي الحركة القومية التي ارتدت لصالح كامل الشعب في ثلاث مسارات رئيسية، سعوا عبرها لتحقيق نقلة نوعية لشعوب الخليج العربي، سواء نجحت جهودهم أو نُقضت من الأنظمة فيما بعد:
أولاً، الحد من نفوذ الشركات الأجنبية، ومحاولة انتزاع جزء من مساحة الثروة، لمصالح الشعب العربي في الخليج، وإقناع الأسر الحاكمة بأكبر قدر ممكن من الاستقلال، من دون مواجهة ملزمة للغرب، ولكن عبر إدارة سياسية أذكى.
ثانيا، نقل دوائر الحكم ومؤسساتها التنفيذية من العلاقات العشوائية إلى مقاربة للمؤسسات المدنية الحديثة، بحسب ما كان يتيسر، وتأسيس منظوماتٍ مهمة للقانون والمرجعية الإدارية، تساعد الشعوب على تطوير احتياجاتها، بدلاً من الريعية المذلة التي لا تزال تُستخدم كثقافة مَنٍّ وأذى توجه إلى الشعوب في كل حين، من بعض منظومات الحكم الخليجي.
ثالثا، فتح آفاق واسعة في مسارات التعليم والصحة وخطاب الثقافة الإصلاحية السياسية وغيرها، والعمل على تأسيس قواعد للمجتمع المدني الحديث.
من الإنصاف أن يُفهم هذا الدور الذي ساهم به قوميو الخليج، سواء باعتبارهم تكنوقراطاً في سلك المنظومات الحكومية، أو مثقفين دفعوا إلى تطور الفرد الحقوقي والمعرفي، وهي مساحاتٌ مشتركةٌ استفاد منها كل أطياف الشعب، بما فيها أبناء التيارات الإسلامية المختلفة.
ما يحتاجه المجتمع الوطني، قُطرياً وموحّداً، في كل إقليم الخليج العربي، هو إيجاد منظومة تعاون في مساحة المشتركات الكبرى لهم، سواء في المسار الحقوقي أو المشاركة الشعبية، أو التنمية، وليس خطابات صراع جديدة، وهناك إشكالية تواجه عروبيي اليوم، وخصوصا الجيل الشابي الجديد. وهي كيف تُصحح الفكرة عن استعلائيات الكادر القومي وروحه الاحتقارية لشركاء الوطن في الخليج، والتعلم من القدوات الأخلاقية العروبية التي جسّدها بعض نبلائها، لأن هذا النموذج الأخلاقي هو ما سيساهم في دفع المشروع النهضوي الجمعي لإقليمهم، لصالح الشعوب ولصالح العرب المتحدين أخلاقياً لا شعبوياً.