فؤاد السحيباني- راصد الخليج-
تبحث الدول العربية، في أزماتها العديدة، عن نموذج، يتيح لها تقديم ضوء في نهاية النفق لشعوبها، التي طال بها المسير في طريق تضحيات لانهائية، والأوقح أنها بلا عائد، فسقطت الدول في اختبارات الكفاءة، وصارت عرضة لثورات ملونة، يصدّرها صانعو الأزمة أنفسهم، ونبتلعها في غفلة وبلاهة، مرات ومرات.
أنظمة الحكم العربية لم تقدم البديل، ولم تجده من الأساس، وتتولى الإدارات الأميركية عملية صناعة نماذج تنموية، موحية بالأمل والنجاح، لعبة أجادتها واشنطن خلال أحداث الحرب الباردة، بدءاً من ألمانيا الغربية مرورًا بكوريا الجنوبية، ومملكة آل سعود ليست آخر القائمة المصنوعة على أعين خبراء الـ C.I.A.
النظام السعودي الحاكم لم يجتهد لتحقيق صالح شعبه، ولم تكن غايته في يوم الحفاظ على ثوابت أمته ومقدساتها وأراضيها، بل كان على الدوام جزءاً من الخطة الأميركية للسيطرة على المنطقة، وسوقها دولا وشعوب إلى المراعي الأميركية، والصهيونية أيضًا.
بمقدار ما يخاصم هذا النظام الأمة كلها، بمقدار ما يعادي شعبه العربي، ويمضي عكس طموحاته وإرادته.
المملكة الثرية التي تضم أقدس الأماكن الإسلامية، وتتوسط العالم العربي، وتمثل رمانة الثقل الجغرافي والمالي في الخليج، مارست دورًا هائلًا في ستينات القرن المنصرم، حين لعبت دور رأس الحربة للولايات المتحدة، ضد الأنظمة القومية العربية، وضد الاتحاد السوفيتي السابق، وهذا ليس تحليلًا، لكنه اعتراف "بن سلمان"، شهادة ذاتية عن الدور المدمر لآل سعود في المنطقة العربية، حين اختلطت أموال البترول بالدعاية الكاذبة، وتدفق الدم العربي سيالًا، يقص ويروي فصولًا من الخيانة والمؤامرات.
تركت حرب اليمن والمقاطعة الخليجية، والاغتيال الأرعن المرعب لمعارض سعودي –جمال خاشقجي- جروحًا وكسورًا لا تجبر على صورة السعودية ومكانتها.
وإذا تأثرت صورة دولة ومكانتها، وبالأخص دولة محورية، فإن استرداد المكانة لا يكون بالمال، كما يفضل البيت السعودي، ولا بالاتفاقات من تحت الطاولة، كما يجري لإغلاق صفحة حرب اليمن، ولا بالجري وراء سراب المجهول، والانضواء تحت راية عدو للشعب والأمة، كما يفعل بن سلمان مع نتنياهو، ويحاول من خلال سعيه شراء الضوء الأخضر الأميركي لتصعيده إلى عرش مملكة النفط، ويعاوده الحنين إلى زمن "فيصل"، حين تسببت الطفرة البترودولارية ثم نكسة 1967، في تثبيت دور سعودي قوي ونافذ، بدا قادرًا على الفعل، بطول المنطقة وعرضها.
صناعة المكانة الإقليمية، ومن ثم، الدولية، عملية معقدة، تستلزم فكرة وخطط مرحلية وإستراتيجية، وأثمان مكلفة للدور في كل مرحلة، الثمن في عملية المكانة ليس مالًا يدفع، لكن تضحيات تبذل وأرواح تقدم، والأهم، أن يكون العطاء في الخط العام لأماني الشعوب، لا الحسابات البنكية للحكام.
لم يتوقف البيت السعودي أبدًا عن ممارسة دوره، في خدمة المصالح الأميركية، والصهيونية من ورائها، ما حدث فقط خلال السنوات القليلة الماضية هو ارتباك بين خدم واشنطن بالمنطقة، نتيجة صراعات شخصية بين السعودية والإمارات من جهة، وتركيا وقطر من جهة أخرى، وهو ما ترك الضعف والترهل واضحًا في الخطوات الأميركية، حتى تجلت زاعقة لحظة انسحاب قواتها من شرق الفرات، لحظة الفرار الأميركي من المنطقة جسدت خيباتها وبؤس حلفائها.
لكن هل خرجت واشنطن من المنطقة تمامًا، واستسلمت في عجز لضياع دورها؟!
الحقيقة تشي بعكس ذلك تمامًا، والزخم هو ما نراه جليًا في التحركات الأميركية، والتي بدت نشطة وفعالة بعد مرور عاصفة الحرب الأخيرة على غزة، فالمباحثات لم تنقطع، والاتصالات بين الأطراف جارية على قدم وساق، لرسم نتيجة جديدة، تحاول انتزاع أرض فقدتها خلال السنوات الماضية، وأول الغيث انتهاء مفعول المقاطعة الخليجية لقطر، وبداية حملة من الإشادة المشتركة بين إعلام الطرفين، الذي ما فتئ كل منهما يشيطن الطرف الآخر، خلال 4 سنوات من الخلاف.
فلسطين كانت الساحة الجاهزة لتجربة نوع جديد من العمل، بين خدم واشنطون، خلال معارك غزة، وجرى بيع الدم الفلسطيني، كما حدث في كل مرة، والرضا الصهيوني يضمن فورًا رضا "ترمب"، وإطلاق يد الصهاينة في المنطقة يتفق والخطوط العريضة لصفقة القرن، الداخلة إلى حيز التنفيذ.
ما جرى في غزة هو التكامل بين المال القطري، والنفوذ السعودي الإماراتي –أو ما تبقى منه- لتفريغ ساحات المواجهة أمام الكيان الصهيوني، عن طريق ربط حركة حماس بالأموال القطرية الداخلة عن طريق الكيان الصهيوني، وبالتالي إعاقتها وإخافتها من الاشتباك مع الصهاينة، وترك السلاح يتكفل بـ"الجهاد الإسلامي"، الذي بدا وحيدًا خلال المواجهة الأخيرة، ثم تدخل النظام المصري –التابع للسعوديين- لضمان بلورة ما تحقق في قواعد جديدة تحفظ أمن الكيان لفترة طويلة.
صفقة القرن، التي سبق وأفشل تطبيقها الشعب الفلسطيني الصامد البطل، تعود بوجهها القبيح للتنفيذ، على يد أنظمة عربية خانت أوطانها وباعت مقدساتها وهانت عليها الدماء الزكية، وتبذل –في اللحظة الآنية- كل ما تستطيع من مال ونفوذ وتأثير لضمان أمن الصهاينة، وربما رفاهيتهم، كما سبق وقالها الرئيس المصري، أحد أقطاب تحالف العار على منبر الأمم المتحدة.
إسقاط المقاومة الفلسطينية، أو دفعها للاقتتال فيما بينها، هو القشة التي ينتظرها نتنياهو وأتباعه في مصر والخليج لدفع الشعب الفلسطيني تمامًا إلى النسيان وصفحات التاريخ.
فهل ستتكرر مأساة الهنود الحمر في القرن الحادي والعشرين؟!