صدر في 23 كانون الثاني / يناير 1980 مبدأ كارتر، الذي يعتبر الخليج العربي جزءاً من المصالح الحيوية الأميركية، وأي محاولة للسيطرة عليه تستدعي استخدام القوة المسلّحة الأميركية للدفاع عنه. نشأ هذا المبدأ على خلفية الاجتياح السوفياتي لأفغانستان، وخشية الولايات المتحدة من تهديد مزعوم لمصالحها ومصالح حلفائها في الخليج العربي.
وكانت بذلك تعبّر عن فكر جيوسياسي أساسه عدم وصول الاتحاد السوفياتي إلى المياه الدافئة، التي تتمثّل هنا في المحيط الهندي، بالإضافة إلى البحر الأبيض المتوسط.
ولهذا السبب، أنشأت «حلف بغداد»، عام 1955، والذي شكّل الجزء الجغرافي الجنوبي لعملية الطوق الأميركي على الاتحاد السوفياتي، في سلسلة من الأحلاف العسكرية امتدت عبر «الحلف الأطلسي» من الغرب و«حلف جنوب وشرق أسيا» من الشرق والجنوب الشرقي، وهو طوق جغرافي يشمل الصين بالإضافة إلى الاتحاد السوفياتي.
ورثت روسيا الاتحاد السوفياتي مع موقعه الجغرافي، وورثت عنه أيضاً عداء الولايات المتحدة لهذا الموقع، فالسياسة الدولية للولايات المتحدة لها مستويات عدّة، إلا أن مستواها الأول تحكمه الرؤى الجيوسياسية.
ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي حتى مجيء دونالد ترامب، كانت مفاهيم ألفرد ماهان ونيكولاس سبيكمان، تحكم الرؤية الأميركية للصراع الدولي. ثمّ توقفت الأفكار مع مجيء ترامب، الذي أعاد خلط الاستراتيجيات، قديمها وجديدها، حتى إن التكتيك الميداني الذي اتّبعه كان متناقضاً بالتبعية الاستراتيجية.
في 22 كانون الأول / ديسمبر 2019، انطلقت مناورات عسكرية في منطقة الخليج العربي ضمّت إيران وروسيا والصين. وجرت هذه المناورات في المحيط الهندي، على مدخل الخليج العربي، في المياه الدافئة التي كانت واشنطن قبل أربعين عاماً تقريباً، مستعدة لشنّ حرب إذا ما حاول الاتحاد السوفياتي ممارسة التأثير على منطقة الخليج العربي.
وها هي إيران وروسيا والصين، بصفتها قوى البر "الأوراسي"، تقوم بتدريبات عسكرية مشتركة فوق المياه الدافئة لقوى البحر، التي تقودها الولايات المتحدة، لتشكّل بذلك منفذاً وممرّاً جدياً وقوياً لها، مُخترقة الهلال الخارجي الذي صنعته سياسة الأحلاف العسكرية الأميركية، من أجل إبقاء القوة الروسية البرّية محصورة في قلب العالم بين الأحلاف العسكرية والجليد، وبذلك يتمّ شلّ قوتها.
تؤشّر هذه المعطيات إلى أن حلفاً استراتيجياً قد ينشأ في هذه المنطقة من العالم، عبر تمكين إيران لقوى البر الأوراسي من التمركز في قلب الخليج العربي، ويؤشر أيضاً إلى أن مفهوم الأمن في الخليج دخل إليه معطى جديد ستكون له تبعات استراتيجية لن تقتصر عليه فقط، بل ستشمل كل "أوراسيا" والتواجد العسكري الأميركي بالمنطقة.
شكّل أمن الخليج معضلة دولية وإقليمية في آنٍ معاً، بحيث تعتبر الولايات المتحدة أن هذا الأمن بالذات مرتبط بأمن منابع النفط، وأمن طرق إمداده، وبحكم موقعه الجغرافي، يُعدّ عاملاً مؤثّراً في أمن إسرائيل. لكن مع مجيء الرئيس دونالد ترامب، اختلف الأمر، ولا سيّما أن هذا الأخير راح يقلّل من أهمية منطقة الخليج النفطية بالنسبة إلى الاستراتيجية الأميركية.
إذ قال: «نحن لم نعد في الموقع الذي كنّا فيه سابقاً في الشرق الأوسط». وفي كلام آخر، قال إن «الدول التي تستورد النفط من منطقة الخليج، كالصين واليابان، عليها حماية شحنات النفط التي تشتريها من دول المنطقة».
واعتبر الرئيس الأميركي أن مصالح الولايات المتحدة الاسترتيجية محدودة في المنطقة، ولا ينبغي التعويل على القوات المسلحة الأميركية لضمان حرية الملاحة في المياه المحاذية للسواحل الإيرانية، كما «لا حاجة لنا لأن نكون هناك».
أسقط ترامب العامل النفطي من الاعتبارات الأمنية، التي تدفعه للحفاظ على أمن الطاقة العالمي. أما الأمر الآخر، فيتمثّل في إهمال ترامب للموقع الجغرافي للخليج، وتهاوي الفكر الجيوبولتيكي الأميركي في النظر إلى هذه النقطة، باعتبارها المنطقة التي تفصل أوروبا عن الشرق.
وهذا مؤشر لم تتحرك الدولة العميقة في الولايات المتحدة إلى مواجهته، أو على الأقل إلى إعادة تصويبه. والأمر الأخير يتعلّق بأمن إسرائيل، وهو الثابت الوحيد في سبيل البقاء في الخليج، وفقاً لمفهوم دونالد ترامب الذي يبني إيمانه هذا على اعتبارات داخلية أميركية. إلا أن هذا الأمر له انعكاس خطير في المستقبل، على إسرائيل، ذلك أنه يُسقط التصوّر الجيوبولتيكي الذي أنشأ الكيان الصهيوني في المنطقة العربية، والذي تبنّته بدايةً العقلية البريطانية.
تنظر إيران إلى أمن الخليج باعتباره شأناً إقليمياً يخصّ دول المنطقة فقط، كما تنظر إلى منطقة الخليج باعتبارها جسماً أمنياً واحداً، بينما ترفض الاتفاقيات والترتيبات الأمنية التي تعقدها هذه الدول مع دول من خارجه.
إلا أنّ المناورات العسكرية بين إيران وروسيا والصين، تؤشّر إلى القبول الإيراني بدخول عوامل دولية إضافية، تلعب دوراً أمنياً في منطقة الخليج، وهذا كلّه يعتبر رداً استرتيجياً مُحكماً على قرار الولايات المتحدة ببناء قوة عسكرية أمنية لحماية الملاحة في مياه الخليج، من دون مشاركة روسيا والصين.
ويأتي ذلك فيما بلغت العقوبات الاقتصادية الأميركية المفروضة على إيران مرحلة من الخطورة لا يمكن مواجهتها، إلا بتغيير استراتيجي يطاول المفاهيم الأمنية والجيوستراتيجية في الإقليم، كما يطاول من ناحية أخرى إعادة بناء دورة اقتصادية خاصة بين مجموعة من الدولة، خارج إطار التأثير الأميركي.
لذا، دفع الضغط الأميركي نحو التقاء الجغرافيا الإيرانية بالجغرافيا الروسية، الأمر الذي كانت كانت تعمل الولايات المتحدة على تفادي حصوله، منذ الحرب العالمية الثانية. ولكن بالنسبة إلى إيران، يمثّل قدوم روسيا والصين إلى الخليج، عملية انفتاح اقتصادي وسياسي أوسع وأشمل، وعملية تكيّف والتقاء حضاري يعبّر عن ذكاء سياسي.
وقد سبقت ذلك، التجربة الإيرانية ــ الروسية في سوريا، التي تقاطعت على مواجهة العقل الجيوبولتيكي الأميركي وأمّنت حضوراً روسياً وإيرانياً في المياه الدافئة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، لتتحوّل إلى تجربة يُبنى عليها لتكرارها في منطقة أخرى.
تربط الدول العربية في المنطقة الخليج، بين أمن الخليج وأمنها وحاجة المجتمع الدولي إلى النفط، أي أنها تنطلق من المادة الاقتصادية لتطالب المجتمع الدولي بالمساهمة والاشتراك في تأمين وضمان أمن الخليج.
وتعبّر هذه الرؤية عن تبعية سياسية حوّلت الضفة العربية في منطقة الخليج، إلى مسرحٍ لأي توتّر أو حرب مقبلة، ودفعت القوى الدولية المتنافسة إلى محاولة التدخّل المستمر في المنطقة، ما خلق حالة من عدم الاستقرار الإقليمي.
وهذا المفهوم نفسه، تهاوى كونه ليس ذاتياً، بحيث يبني قوّته على أسس خارجية، تتّجه نحو التغيير الاستراتيجي، كما ذكرنا أعلاه. ولكن هذا المفهوم هو الذي سيدفع الثمن الأكبر، عندما تلامس التغييرات أرض الواقع.
يشكّل الخليج العربي المنطقة الجغرافية المشتركة بين إيران والدول العربية المطلّة عليه وهي: العراق، الكويت، السعودية، قطر، الإمارات، عمان والبحرين. ويتشكل المشهد الخليجي الحالي عبر ثلاثة مظاهر: الضفة الإيرانية التي تتحالف مع روسيا الصين، والضفة العربية الخليجية التي تتحالف مع الولايات المتحدة، والضفة العراقية وهي منطقة مشتركة إيرانية ــ أميركية.
إضافة إلى ما تقدّم، فإن البيئة الأمنية في الخليج تدفع بطبيعتها نحو التوتر، حيث يبرز عدد من النزاعات التاريخية، التي ما زالت قائمة حول المياه والحدود والمناطق والآبار النفطية، مثل النزاعات الحدودية بين إيران والعراق من جهة، والعراق والكويت من جهة أخرى، وبين إيران وعدد من دول مجلس التعاون للخليج العربي من جهة، ودول مجلس التعاون نفسها من جهة ثانية. ويظهر ذلك من خلال الصراع الحاد بين دولة قطر والعربية السعودية، ودولة الإمارات والبحرين.
كذلك، يوجد في الخليج سباق تسلّح غير مُعلن بين إيران وبعض دول مجلس التعاون، يظهر بشكل واضح عبر صفقات الأسلحة التي تبرمها السعودية والإمارات، وتطوّر الصواريخ الإيرانية.
وتتجّسد أيضاً معالم البيئة الأمنية، عبر الحضور العسكري الأميركي الذي ينتشر على مساحة كل الدول العربية القائمة على سواحل الخليج العربي، كما يظهر من خلال الاتفاقيات الدفاعية التي تبرمها الولايات المتحدة مع هذه الدول، ومن خلال القواعد العسكرية الأميركية التي تسيطر على بحر وجو وبر الخليج العربي.
ويتطوّر هذا الوجود النوعي ويتنامى، مجهّزاً بأحدث التقنيات العسكرية، كما بُنيت له مؤسسات مدنية تؤشر إلى بقاء طويل للقوات الأميركية في المنطقة، بينما يقدم نفسه باستمرار كقوة موازية للقوة الإيرانية.
ولا يقتصر الوجود العسكري الأجنبي في الخليج على الأميركي، بل يتعداه ليشمل القوات البريطانية، والفرنسية، والأسترالية، والتركية، وهو في حالة استقبال دائم لقوات أجنبية من مختلف الدول نظراً إلى الخيارات السياسية التي تتبناها دوله العربية.
وبين هذا وذاك، تتجسّد أزمة البيئة الأمنية عبر الأزمة اليمنية وتداعياتها على المنظومة الإقليمية للخليج العربي، وهي تعكس فعل التناقض العنيف بين إيران ودول الخليج العربية، كما تعكس أيضاً فعل الصراع في الإقليم بين الولايات المتحدة وإيران، بينما سيؤدّي استمراره إلى عمليات تشظّي تشمل الجغرافيا والسياسة.
وفي الأساس، يتنازع الخليج عاملان يشكّلان البيئة الأمنية: عامل خارجي تمثله الولايات المتحدة، ويشكل العامل العربي امتداداً لهذا العامل الخارجي؛ وعامل داخلي تمثّله إيران، التي تعمل على تقويته برفده بعامل خارجي يتمثّل في روسيا والصين.
ورغم أن العوامل التي تدفع نحو بناء مفهوم أمني مشترك لمنطقة الخليج، متنوّعة وحضارية وجغرافية وثقافية، كما أنها حاجة عربية ــ إيرانية، إلا أنّ الفشل كان من نصيب جميع المحاولات للوصول إلى بناء مفهوم مشترك حول الأمن الإقليمي.
وذلك بينما ساهمت التدخّلات الدولية والصراع الدولي، في فترة الحرب الباردة، إضافة إلى الوجود الإسرائيلي، ومخزون النفط الذي تضمّه المنطقة، والتدخّل العسكري الأميركي المباشر فيها، بعد انتهاء الحرب الباردة، إلى إبقائها في حال من القابلية للاشتعال.
يشي مستوى الأحداث التي وقعت في منطقة الخليج بتحوّلات كبرى، وقد ساهمت في ذلك أحداث عدّة ابتداءً من فرض عقوبات اقتصادية أميركية على إيران، وتفجير ناقلات النفط، والهجوم على المنشآت النفطية في شركة «أرامكو»، وصولاً إلى اغتيال اللواء قاسم سليماني والرد الإيراني عليه، من خلال قصف قاعدة «عين الأسد» الأميركية في العراق.
وما رافق ذلك من رفع مستوى التحدّي الأمني واحتمالات المواجهة سواء المباشرة أم غير المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، بموازاة التصريحات الصادرة عن المسؤولين فيها بوجوب إخراج القوات الأميركية من المنطقة. إلا أن المواجهة بين الطرفين التي تأخذ طابعاً غير مباشر.
ربما تكون أرضها العراق وتهدف في المستوى الأول منها إلى إعادة المنطقة إلى ما كانت عليه، قبل عام 2003 ــ أي الاجتياح الأميركي للعراق ــ بينما تُسقط هذه المرحلة مفاعيل الخطة الأميركية لاحتلال العراق، والتي تعود إلى عام 1988.
والمواجهة في المستوى الثاني، قد تكون مباشرة بين الطرفين، وساحتها مياه الخليج العربي، بينما ستكون انعكاساتها إقليمية وعالمية وتهدف إلى إعادة المنطقة إلى ما كانت عليه، قبل عام 1991 ــ عملية «عاصفة الصحراء» أو حرب تحرير الكويت.
وتُسقط هذه المرحلة مفاعيل انهيار الاتحاد السوفياتي، على منطقة الخليج العربي، والتي دفعت القوات الأميركية إلى التواجد العسكري المباشر والصريح في المنطقة.
كانت الاتجاهات السابقة في منطقة الخليج تتفادى المواجهة المباشرة. إلا أن الجغرافيا الاقتصادية والسياسية للمنطقة، وواقع القوة العسكرية للولايات المتحدة وإيران، إضافة إلى التوقعات الكارثية المحتملة للحرب وخشية الأطراف الإقليمية والدولية من نشوبها، تدفع بالمنطقة إلى خيارات استراتيجية ستكون حاسمة.
وتؤشّر إلى أن اللاعبين الدوليين والإقليميين ارتفع لديهم مستوى الأهداف. وبالتالي، فإنّ الاستعداد للمواجهة والأحداث الكبرى، هو الذي يصنع الاستراتيجيات الجديدة، والتي تتغيّر بفعل عملٍ دولي ضخم، مثل حرب دولية كبرى أو انهيار منظومة دولية أو تلاشي قوة دولية عظمى.
د. علي ناصر ناصر - الأخبار اللبنانية