السفير العربي-
حولت المعاهدة شيوخ "القبائل المتهادنة" إلى حكام دولٍ رعت بريطانيا إقامتها وأشرفت على رسم حدودها.
غيّر البريطانيون اسم "ساحل القراصنة" كما كان يسمونه حتى تلك المعاهدة إلى "الساحل المتهادن" (الإمارات حاليا).
أسست "معاهدة السلام العامة" في 1820 لهيمنة بريطانية على الخليج امتدت قرنا ونصف ومهدت لهيمنة أمريكا الراهنة على المنطقة.
تغيّر الخليج كثيراً عما كان عليه تحت الهيمنة البريطانية لكن لم يتغير اقتناع حكام الخليج بأن أنظمتهم لا يمكن أن تستمر بدون حماية خارجية.
كسابقة لـ"التحالف الدولي ضد الإرهاب"، أعطت المادة 7 من المعاهدة لبريطانيا حق دعوة القبائل المتهادنة للمشاركة بـ"تحالف ضد القرصنة"!
وهو ربما ما يُفسر التجاهل الملحوظ لهذه الذكرى التي قد يشكل التذكير بها تشكيكاً في المحاولات التي تبذلها العوائل الحاكمة في المنطقة لتوثيق سرديات ملفقة للتاريخ.
في الثامن من هذا الشهر، كانون الثاني /يناير، مرّت مناسبة لم يحتفل بها أطرافها. ففي مثل ذلك اليوم قبل قرنيْن، تمّ تدشين "معاهدة السلام العامة" بين ممثلي بريطانيا وشيوخ قبائل عربية، في ما كان يُعرف آنذاك بـ "ساحل القراصنة" قبل أن يغيّر البريطانيون تسميته إلى "الساحل المتهادن" (دولة الإمارات العربية في الوقت الحاضر). بعد تلك المعاهدة الأم جاءت سلسلة اتفاقيات جماعية وفردية بين بريطانيا وشيوخ قبائل خليجية.
أسست معاهدة 1820 لحقبة الهيمنة البريطانية على بلدان الخليج العربي التي امتدت لقرنٍ ونصف القرن والتي مهدت بدورها لحقبة الهيمنة الأمريكية الراهنة على المنطقة. كما أسهمت تلك المعاهدة وما تلاها في تحويل شيوخ تلك القبائل المتهادنة إلى حكام دولٍ رعت بريطانيا إقامتها وأشرفت على رسم حدودها. ولعل في هذا ما يُفسر التجاهل الملحوظ لهذه الذكرى السوداء في تاريخ المنطقة التي قد يشكل التذكير بها تشكيكاً في المحاولات التي تبذلها العوائل الحاكمة لتوثيق سرديات ملفقة لتاريخ المنطقة.
من ساحل قراصنة إلى ساحل متهادن
في بداية كانون الثاني /يناير 1820، انتقل الميجور جنرال البريطاني "وليام جرانت كير" مع معاونيه من مقره في جزيرة قشـم على الجانب الفارسي من الخليج، إلى ميناء رأس الخيمة في الجانب العربي، ليأخذ هناك تواقيع شيوخ الساحل العُماني على "معاهدة السلام العامة" بينهم وبين بريطانيا.
أول من وضع بصمته على تلك الوثيقة بتاريخ 8/1/1820 كان شيخ رأس الخيمة الذي قاومت قبيلته القواسم وحلفاؤها ببسالة المحاولات البريطانية لإخضاعهم. صمد تحالف القواسم أمام حصار بحري وأمام حملات عسكرية متتالية شنتها بريطانيا في 1800 و1805 و1809 و1819، تحت حجج مكافحة القرصنة وتجارة الرقيق.
آخر تلك الحملات أسفرت عن سقوط رأس الخيمة وتدميرها، ثم تدمير الموانئ الأخرى والحصون الساحلية التابعة للقواسم في الشارقة وأم القيوين وعجمان.
وبعد قبول شيخ القواسم شروط تلك المعاهدة، استمر استدعاء رؤساء بقية قبائل المنطقة على التوالي إلى مقر إقامة الجنرال البريطاني لوضع بصماتهم على تلك الوثيقة. ووافقت بريطانيا لاحقاً على طلبات قدمها شيوخ قبائل أخرى، ومن بينهم حاكم البحرين، للانضمام إلى تلك المعاهدة.
أظهرت بنود المعاهدة أن الاهتمام البريطاني كان محصوراً بتأمين الملاحة عن طريق فرض هيمنة إسطولها على مياه الخليج العربي ومداخله، ومنع أي طرف محلي من محاولة منافستها. ولهذا الغرض ألزمت بريطانيا الشيوخ المتصالحين بعدم السعي لبناء السفن الكبيرة أو محاولة إعادة بناء قواهم البحرية الخاصة، وبعدم تشييد التحصينات في المناطق التي يتواجدون فيها.
مقابل ذلك حصل شيخ كل قبيلة من القبائل المتعاهدة على الأمان لنفسه ولقبيلته، كما ضمن حماية بريطانيا له من جيرانه بل ومن منافسيه داخل قبيلته ذاتها. وفيما يمكن اعتباره سابق لما يُسمى الآن بـ"التحالف الدولي ضد الإرهاب"، أعطت المادة السابعة من المعاهدة لبريطانيا الحق في دعوة جميع القبائل المتهادنة للمشاركة في "تحالف ضد القرصنة" والعمل وفق قابلياتهم ضد أي طرف لا يلتزم بنصوص المعاهدة.
مقابل تركيز بريطانيا على تثبيت حقها المطلق في القيام بمهمات شرطي المنطقة الذي يحمي الملاحة التجارية في البحر العربي والخليج، فهي تركت ولفترة طويلة بعد 1820 لشيوخ القبائل المتهادنين مهمات تسوية أمورهم الداخلية، بما فيها تسوية النزاعات المزمنة بين تلك القبائل حول الزعامة وحول الحدود وآبار المياه ومناطق الرعي والصيد.
لم يكن ذلك عبثاً بل على العكس. فمن جهة انشغلت تلك القبائل بنزاعاتها مع بعضها البعض، ومن جهة أخرى أتاحت تلك النزاعات لبريطانيا أن تتدخل وقتما تشاء لتقوية قبيلة ضد أخرى أو لتنصيب شيخٍ مكان آخر.
من اللورد كرزون إلى الرئيس ترامب
بعد مرور تسعين سنة على معاهدة 1820، قام اللورد "كرزون" بصفته نائب الملك البريطاني والحاكم العام في الهند، التي تخضع منطقة الخليج لإداراتها، بزيارة تفقدية لبلدان المنطقة. وفي الشارقة، على الساحل المتهادن، استقبل اللورد في سفينته وفداً من شيوخ القبائل، ضم شيوخ أبوظبي ودبي والشارقة وعجمان وأم القيوين.
ليؤكد لهم أن الهيمنة البريطانية هي ضمانة السلم في المنطقة مثلما هي ضمانة استمرار حكم الشيوخ. فلا شك إنهم يتذكرون، قال اللورد، بأن الخليج كان منطقة "حرب ونزاع، وكان كل إنسان على الأغلب إما قرصاناً أو قاطع طريق...".
شدد اللورد على أن الأحوال قد تغيرت في المنطقة بعد أن "أقامت الحكومة البريطانية، وبرضاكم أنتم، وصايتها على السلم بين القبائل، ونمت روابط سياسية بين حكومة الهند وبينكم، وأصبحت الحكومة البريطانية بمقتضاها سيدة عليكم وحامية لكم (...) ولذا يجب أن يستمر السلم في هذه المياه وعندها يمكن ضمان استقلالكم وبقاء نفوذ الحكومة البريطانية فوق كل نفوذ".
إثر الانسحاب البريطاني من الخليج في نهاية ستينيات القرن الماضي، انتهت عملياً الهيمنة البريطانية على المنطقة لتحل محلها هيمنة أمريكية استفادت كثيراً من خبرات الاستعمار البريطاني، لكنها لم تستنسخها جميعاً. فقد تغيرت أحوال الخليج كثيراً عما كانت عليه.
فمنذ اكتشاف النفط، وخاصة بعد الطفرة النفطية، لم يعد الخليج مجرد ممر للتجارة البحرية في الطريق إلى الهند والمستعمرات الآسيوية. وشيوخ الخليج، الذين كان بعضهم يعتمد على القرصنة وتجارة الرقيق وتهريب الأسلحة، أصبحوا حكاماً لدولٍ معترف بها، لها جيوشها ومواردها وعلاقاتها الإقليمية والدولية.
إلا أنهم وعلى الرغم من ذلك كله لم يتخلوا عن موروث تراكمت تداعياته طيلة أكثر من قرنين من الخضوع لهيمنة الاستعمار البريطاني. وهذا بالضبط ما استوعبه الرئيس الأمريكي.
لا يمكن إنكار أن الخليج قد تغير كثيراً عما كان عليه تحت الهيمنة البريطانية. وإن حكام المنطقة قد تغيروا عما كان عليه أسلافهم في زمن الجنرال كير في 1820 وزمن اللورد كرزون في 1903.
إلا إن أمراً أساسياً لم يتغير، ألا وهو اقتناع حكام الخليج العربي بأن أنظمتهم لا يمكن أن تستمر بدون حماية خارجية. وإن عليهم قبول دفع لأكلاف السياسية والمالية التي مقابل استجلاب تلك الحماية والخضوع لها.
ربما لم يسمع ترامب بالجنرال كير أو باللورد كرزون. إلا إنه هو يستعيد بعضاً من خبراتهما حين يكرر في الفينة والأخرى إن دول الخليج "لن تبقى لأسبوع واحد دون حمايتنا وإن عليهم دفع ثمن لذلك".
لقد رهن الجنرال كير واللورد كرزون استقلال شيوخ القبائل المتهادنة مقابل اعترافهم بهيمنة بريطانيا عليهم وبقاء نفوذها فوق كل نفوذ. أما ترامب فأضاف على ذلك إن على حكام الخليج أن يدفعوا لبلاده ثمن حمايتهم وضمان استمرار أنظمتهم واستقلالها.