باتريك ثيروس/منتدى الخليج الدولي -
بعد 11 يوما من القتال الدامي بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس في غزة، تجد بعض دول مجلس التعاون الخليجي نفسها في موقف سياسي لا تحسد عليه. فقد أحيت أعمال العنف الأخيرة في مدن القدس وغزة الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية داخل دول الخليج، وساهمت في تغيير الوضع الجيوسياسي في المنطقة.
وكانت أحد العوامل المهمة في هذا التحول هو السياسة الخارجية الجديدة للرئيس الأمريكي "جو بايدن"، التي أثرت على إسرائيل وفلسطين والخليج بطرق مختلفة.
وحتى وقت قريب، كانت القضية الفلسطينية تثير استجابة مشتركة من دول الخليج، حتى بين الخصوم الإقليميين. ودعمت جميع دول الخليج، بدرجة أو بأخرى، القضية الفلسطينية ولو بشكل خطابي فقط.
وبالرغم أن دولة عربية واحدة فقط من الخليج، وهي العراق، أرسلت جيشها بالفعل لمواجهة الإسرائيليين في حرب تقليدية قديمة، إلا أن جميع دول الخليج كانوا يميلون إلى قبول خط مشترك مناهض لإسرائيل ومؤيد للفلسطينيين حتى وقت قريب.
وفي أوائل العقد الأول من القرن الـ 21، احتشد الجميع وراء مبادرة السلام العربية التي تقودها السعودية، والمعروفة باسم "مبادرة الملك عبدالله"، لتطبيع العلاقات مع إسرائيل بمجرد تسوية مشاكلها مع الفلسطينيين.
هزات ارتدادية في الخليج
وبالرغم من العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل واثنين من دول مجلس التعاون الخليجي (الإمارات والبحرين)، إلا أن جميع وسائل الإعلام الخليجية تقريبا تدين بشدة الإسرائيليين وتدعم الفلسطينيين، دون تمييز بين المقيمين في غزة أو الضفة الغربية أو داخل إسرائيل. وحتى المنافذ الإعلامية التي تسيطر عليها الحكومات التي لها مصلحة في الحفاظ على علاقات جيدة مع إسرائيل، لم تتردد في إدانة الإسرائيليين.
وانتشرت على منصات التواصل الاجتماعي صور لقوات الأمن الإسرائيلية وهي تطلق قنابل الصوت والغاز المسيل للدموع على المصلين والمتظاهرين في المسجد الأقصى، وصور لعائلات فلسطينية تقاوم الإخلاء القسري لمنازلها، وكذلك مقاطع لاحتجاجات دامية في أنحاء الضفة الغربية المحتلة. وتعرضت الأصوات الخليجية القليلة التي انتقدت "حماس"، مثل الداعية الإماراتي "وسيم يوسف"، لسيل من الانتقادات على "تويتر".
وبالرغم من القبضة الأمنية، فإن قيادة الإمارات تدرك أنها غير محصنة ضد المشاعر الشعبية. ويفهم هؤلاء القادة أنه يجب عليهم أن يظهروا لشعبهم أن تأكيداتهم بشأن حماية الفلسطينيين والمسجد الأقصى ليست كلمات جوفاء. ومع ذلك، أظهر الصراع الأخير أن أبوظبي إما غير قادرة أو غير راغبة في التأثير على قرارات إسرائيل فيما يتعلق بحقوق الفلسطينيين.
وبالرغم من ذلك، لن تستطيع النخبة الحاكمة في الإمارات تجاهل القضية مع انتشار الصور المتجددة للقوات الإسرائيلية التي تهاجم الفلسطينيين في المدن المحتلة والضفة الغربية. وينطبق نفس الأمر على بقية دول مجلس التعاون الخليجي أيضا.
وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتنياهو" يأمل في أن يؤدي اجتماعه مع ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" في "نيوم"، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إلى تطبيع العلاقات بمجرد أن يخلف "بن سلمان" والده على العرش السعودي.
وفي حين أن المصير النهائي للعلاقات السعودية الإسرائيلية ما يزال غير واضح، فإن معركة غزة 2021 ساهمت في جعل هذه الخطوة صعبة بشكل أكبر بالنسبة للرياض.
سياسة "بايدن" الجديدة تأتي مع حقائق جديدة
ويعتبر السياق الدولي مهما أيضا. ومن الواضح أن دعم الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" غير المشروط لـ "نتنياهو" لعب دورا مهما في قرار الإمارات بالاعتراف بإسرائيل. ومع خروج "ترامب" من منصبه، يجب على القيادة الخليجية أن تبدأ في رؤية تصرفات "نتنياهو" كعائق، وليست رصيدا، في علاقتها الأكثر أهمية مع الولايات المتحدة، وهو عامل آخر يدعو للحذر تجاه المزيد من التطبيع.
وبالرغم أن "بايدن" سيكون داعما لأي خطوات سعودية باتجاه التطبيع مع إسرائيل. فإن الإدارة الأمريكية لن تمنح "بن سلمان" أي سبب للاعتقاد بأنه سيحصل على أي فائدة سياسية في واشنطن في مقابل هذا التطبيع.
ولن تجد عُمان أو قطر أو الكويت أي شيء تكسبه من اتخاذ مثل هذه الخطوة الآن. ويعني هذا أن عملية التطبيع مع إسرائيل، التي بدأت في أغسطس/آب 2020، ستتوقف على الأرجح في الوقت الحالي.
وأخيرا، ستجني إيران، التي اتخذت الموقف الأكثر ثباتا ضد إسرائيل من أي دولة خليجية، بعض المكاسب في صورتها بعد الصراع الأخير. وبخلاف دول الخليج، تدعم إيران علنا أهداف "حماس" السياسية، وقد اعترفت علنا بدورها في تمويل الحركة وتسليحها. ومع إعلان "حماس" انتصارها في المعركة، يمكن لإيران أن تستفيد دعائيا، بينما ستحاول الحكومات الخليجية التي طبعت العلاقات مع إسرائيل في عام 2020 التزام الهدوء قدر الإمكان وانتظار انتهاء الأزمة.
المشهد الجيوسياسي المتغير في الخليج
وتأتي الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة ضد الفلسطينيين في وقت تحاول فيه دول الخليج استيعاب التغييرات غير المسبوقة في المشهد الجيوسياسي. وأشار "بايدن" إلى أنه يشارك سلفه الرغبة في الحد من التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط.
والأمر الأكثر إثارة للاهتمام هو أن دول الخليج اتخذت خطوات إقليمية لم تكن لتفكر بها قبل بضعة أعوام. وكان أهمها اتفاقيات التطبيع التي أبرمتها الإمارات وتلتها البحرين والسودان والمغرب بفترة قصيرة.
وكافأت إدارة "ترامب" هذه الدول بسخاء من خلال الموافقة على بيع مقاتلات "إف-35" إلى الإمارات، وإزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والاعتراف بالسيادة المغربية على منطقة الصحراء الغربية المتنازع عليها. وفي حين يبدو أن هذه الحوافز السياسية هي السبب الواضح الوحيد لاعتراف الدولتين الأخيرتين بإسرائيل، يرى محللون أن أبوظبي تعتبر العلاقات الإيجابية مع إسرائيل رصيدا استراتيجيا في علاقتها العدائية مع إيران.
وقبل الأحداث الأخيرة في الأراضي الفلسطينية، تم الترويج إلى أن عمليات التطبيع تبرهن على أن القضية الفلسطينية فقدت جاذبيتها لدى النخب و"الشارع" في العالم العربي، مع عدم وجود معارضة كبيرة للتطبيع في أي من تلك البلدان. علاوة على ذلك، جعلت اتفاقات التطبيع "مبادرة السلام العربية" حبرا على ورق؛ فلم يعد لدى إسرائيل أي حافز للتخلي عن الأراضي التي احتلتها عام 1967 مقابل الاعتراف بها.
ولا تعد علاقات دول مجلس التعاون الخليجي مع إسرائيل التغيير الوحيد الذي نشهده. وقبل أسابيع قليلة، تسربت أنباء تفيد بأن العراق استضاف اجتماعات سرية بين ضباط المخابرات الإيرانية والسعودية؛ بحثا عن سبل لتحسين العلاقات بين القوتين الرئيسيتين في منطقة الخليج. وسرعان ما أعقب هذه التسريبات مقابلة مع ولي العهد السعودي، أعرب فيها عن رغبته في إقامة علاقات جيدة مع إيران.
ووصف "بن سلمان" إيران بأنها "دولة مجاورة نطمح لإقامة علاقة جيدة ومتميزة معها، ونتمنى ازدهارها"، وأضاف: "لدينا مصالح مع إيران كما أن لها مصالح مع المملكة". وبعد ذلك بوقت قصير، أقر كلا البلدين بالمفاوضات الجارية.
وبالرغم من الافتراض الشائع بأن الإمارات ربطت نفسها بإسرائيل للحصول على دعم دبلوماسي في مواجهة طهران، فقد أمضى المفاوضون الإماراتيون وقتا في التحدث مع نظرائهم الإيرانيين. وتربط قطر وعمان بالفعل علاقة مهمة مع إيران، وتحافظ الكويت على روابط سرية مع الجمهورية الإسلامية أيضا.
وكانت التصريحات العلنية من دول الخليج المعارضة لاستعادة خطة العمل الشاملة المشتركة، هامسة وضعيفة؛ ما جعل إسرائيل وحلفاءها المحافظين في الولايات المتحدة هم وحدهم المتطرفون الذين يقاتلون ضد العودة الأمريكية إلى الاتفاق النووي الإيراني.
تصاعد العنف
وبالرغم من النشاط الدبلوماسي لإسرائيل، قررت الشرطة الإسرائيلية بشكل مفاجئ وغير منطقي، وقف الأذان من الحرم الشريف؛ لأن الرئيس الإسرائيلي "رؤوفين ريفلين" أراد إلقاء خطاب في الحائط الغربي في نفس الوقت. ولزيادة التوتر، قامت منظمات المستوطنين الإسرائيليين بتأمين أوامر قضائية بطرد الفلسطينيين من منازلهم في حي الشيخ جراح. وانتشرت صور الشرطة وهي تنفذ ذلك، وسرعان ما تحولت المظاهرات إلى أعمال عنف حيث اشتبكت المجموعات اليهودية والعربية.
وسارعت حماس بالتدخل من خلال شن هجمات صاروخية على إسرائيل. ورد رئيس الوزراء الإسرائيلي "نتنياهو" بقصف جوي ومدفعي إسرائيلي على غزة. وحاول "بايدن" تجنب الانجرار، لكن في مواجهة ضغوط من حزبه وانتقادات واسعة النطاق للقصف الإسرائيلي، أجبر "نتنياهو" على الموافقة على وقف إطلاق النار.
وتسبب العدوان الإسرائيلي في مقتل نحو 240 شخصا من سكان غزة، من بينهم أكثر من 70 طفلا، فيما نزح نحو 70 ألفا أثناء القتال. وعلى الجانب الإسرائيلي، قُتل 11 مستوطنا وجندي واحد. ورغم التفاوت في هذه الأرقام، رأت حماس أنها انتصرت باعتبار أنها صمدت أمام هجوم إسرائيلي شرس حتى وقف إطلاق النار بوساطة من المصريين والقطريين.
وقد أضفى ختام القتال الشرعية على حماس بإعلان إسرائيل "وقف إطلاق النار من جانب واحد"، وهو مصطلح كان مخصصا في السابق لحروب إسرائيل مع الدول العربية الأخرى. ووصف "إسماعيل هنية" حماس بأنها "حارس القدس" أمام حشد من الموالين في قطر.
التصعيد يضر باتفاقات التطبيع
ولا تشكل الشعبية التي اكتسبتها حماس مشكلة صغيرة لمجلس التعاون الخليجي. وقبل المعركة الأخيرة، لم يكن لحماس سوى القليل من الأصدقاء بين حكومات الخليج. وحتى قطر، أكبر متبرع لغزة، حرصت على إبقاء الحركة بعيدا، بينما كانت تنسق مساعداتها لغزة مع الولايات المتحدة.
ومع استمرار الاضطرابات في الضفة الغربية والتوترات بين العرب واليهود داخل إسرائيل، بدأت وسائل الإعلام العالمية الآن، التركيز على معاناة الفلسطينيين؛ ما أعطى حماس سببا آخر لاكتساب الحق والشرعية.
وعندما هاجمت الشرطة الإسرائيلية المصلين وطردتهم من المسجد الأقصى لتمهيد الطريق أمام المتظاهرين الإسرائيليين للوصول إلى الحرم، كان هذا مأزقا لأبوظبي والمنامة، فقد كان تبريرهما العلني للتطبيع هو أنه يمنحهم نفوذا لحماية الفلسطينيين والأماكن الإسلامية المقدسة من الحملة التي يقودها المستوطنون لتهجيرهم والسيطرة على الحرم الشريف.
وإذا استمرت "حماس" في لعب أوراقها ببراعة، فيمكن اعتبارها البطل الأول لقضية فلسطين. وإذا حدث ذلك، سيكون الوضع أكثر تعقيدا بالنسبة للرياض والإمارات، فيما ستستفيد إيران ودول مجلس التعاون الخليجي التي رفضت تطبيع علاقاتها مع إسرائيل.