عباس المرشد- البيت الخليجي-
في الجزء الاول من المقال تناولنا فكرة الإقتراب من محدّدات مسألة العقد الإجتماعي في دول الخليج العربية، في محاولة تبيان أنّ المعضلة الرئيسية لإتمام العقد الإجتماعي هي استقلال بيوت الحكم، وبالتالي الدولة عن المجتمع مما يعطي تلك البيوت مساحة أوسع من الإلتزام بمقتضيات التحديث السياسي. وكان واضحًا من سيرة السرد التاريخي أن بيوت الحكم تعمل على استعادة صيغ قديمة للتًعاقد الإجتماعي تعتمد على تطوير مبادئ الحكم القبلي والغنائمي. وقد وجدت في الثروة النفطية ما يعينها على تنفيذ هذه الرؤية عبر ما اصطلح عليه بـ” الدولة الرّيعية” مقابل “البيعة السياسية”.
في الجزء الثاني من المقالة سنركز الحديث حول البناء الأسطوري الذي تأسّست عليه الدولة الحديثة في منطقة الخليج العربي إنطلاقًا من مقاربة تشارلز تيلي: “صناعة الحرب وبناء الدولة بوصفها جريمة منظمة” وما إذا كانت أنظمة الحكم في الخليج العربي تعدّ مصداقًا حقيقيًا لمفهوم الحماية، على الأقل من جهة أخلاقية، إلا أن الأكثر أهمية يبقى تفكيك أسطورة بناء الدولة الخليجية على عقد إجتماعي تقليدي.
الخروج عن الدولة
تستند حجة “بيوت الحكم” خطابيًا في تدعيم مواقفها المتشددة اتجاه العقد الإجتماعي الجديد إلى جملة من “الأساطير السياسية” التّي تعدّ بمثابة قواعد إستمرارية بيوت الحكم في القبض على مقاليد السلطة والهيمنة. ما من شك أن فحص فنون الحكم لدى أنظمة دول الخليج العربي من شأنه أن يقدّم لنا صورة مختلفة عن الصورة النشطة إعلاميًا وما تؤسسه تلك الصورة من أمزجة سياسية. والحال كما يذكرتيلي أنه “من الشائع أن يقوم المدافعون عن حكومات معيّنة أوعن فكرة الحكومة بالعموم بالمحاججة بشكل محدّد أن هذه الحكومات توفّر أفضل عرض حماية من العنف المحلي والخارجي، وأن يزعموا أن ثمن هذه الحماية بالكاد يغطّي تكاليفها وأن يطلقوا على من يشتكي من ثمن هذه الحماية “أناركيين” أو “مخربين” أو الاثنين معا.
من وجهة نظر “بيوت الحكم” في الخليج يعتبرالحديث عن أي تعديلات في العقد الإجتماعي خروجًا عن الدولة ومحاولة لإقصاء الشيوخ من واجهة السّياسة في المنطقة. وعلى هذا الأساس صاغت مراكز الحكم محدّدات “العقل الأمني” الخاصة، وترجمتها في ترسانة هائلة من القوانين القامعة للحريات، وفي تقوية أجهزة الأمن والإستخبارات، وذلك كله على حساب المواطنة المتساوية وعلى حساب الشراكة السياسية الحقيقية، ونتيجة لذلك أصبحت مجتمعات الخليج تعيش تحت وطأة العنف السّياسي الرّسمي.
ولكن ماذا لو كانت الحماية المشار إليها في حجّة بيوت الحكم هي تهديد في الأصل، وأنّ الخوف وانعدام الأمن هو نتيجة متوقّعة لتهديدات بيوت الحكم وقدرتها على تحريك أدوات عنيفة لا تضع خيارات أمام الناس سوى الإنصياع لقوّتها والتسليم بكونهم أمناء على الحماية؟
قبل 1923 مثلا كانت قوة الفداوية (وهم قوات مهمتها حماية الحاكم) تمثل اليد الضاربة للحاكم لا من أجل فرض الأمن بل من أجل التخويف بانعدام الأمن وهي نفس الحجة التي يشير إليها تيلي عندما يتحدث عن المخاطر التي تحمي منها الحكومات مواطنيها وأنها في الأصل “مخاطر متخيّلة أو أنها نتيجة لنشاط الحكومة ذاتها”، وحتى عندما تشكلت البنية الأوّلية للدّولة الحديثة ” البيروقراطية المركزية” أصبحت القوّة الأمنية والإستخباراتية أداة بديلة عن قوة الفداوية حتى وإن اختلف شكلها ودورها الإداري، إلا أنها ظلت مخلصة لجوهر “الفداوي” وهو حماية الشيخ وعائلته ومصالحه وإنتاج مخاوف متخيّلة أو عمليّة.
الإستناد إلى هذا التفكيك بين “الشّرعية الفعلية في الحماية” والقدرة الفعلية على إنتاج “المخاطر وإدارتها” من شأنه أن يفسح المجال لمناقشة الأسطورة الأساسية التي تستند إليها دعاية “بيوت الحكم” للتنصل من قبول “عقلانية العقد الاجتماعي” وهي أنها تلتزم بالصيغة التقليدية للحكم. المحاججة هنا رغم طابعها التاريخي تعتبر في الوقت نفسه بحثا عن مبررات العقلانية المنشودة. وبالتالي فإنّ السّؤال الأكثر إثارة هو كيف بنت “بيوت الحكم” في الخليج سلطتها السياسية وكيف فرضت نفسها كممثّل وحيد عن المجتمعات؟
عمليًا، قدمت الكثير من الأجابات الأولية على هذا، وكونها إجابات أوّلية، يعني أنها لم تُفحص تاريخيًا وسياسيا بشكل كافٍ ومقنعٍ بعد، مما يجعل السؤال مطروحًا سواء كان تاريخيًا أو سياسيًا.
يقودنا التأمل التاريخي في نشوء السلطة لدى بيوت الحكم إلى أن طريقة استلام السلطة داخل بيوت الحكم الخليجية لم تكن سلميّة، إلا في حالات نادرة، وأنّ الغالب في تسلم الزعامة كان يحدث نتيجة صراعات دموية قوامها الحرب أو شن الحرب على الفروع الداخلية أو الأطراف الخارجية. فالبحرين كحالة نموذجية تشير إلى استيلاء قبيلة ال خلفية على الجزيرة عبر معركة حربية، ولم تنتهي الحرب عند هذا الحد بل أن الفترة اللاحقة لعام1830 شهدت البحرين خلالها حربًا أهلية مدمرة إستمرّت لأكثر من 15 عامًا بين الأخوة بالدم من عائلة آل خليفة، وانتهت بفرض القوة البريطانية حصارًا عسكريًا في عام 1867 لعزل الحاكم وتعين حاكم بديل. وبالمثل فإن تأسيس الدولة السعودية الثالثة كان عبارة عن غزوات عسكرية متتالية خاضها عبد العزيز بن سعود لتوحيد أراضي الحجاز والاحساء والقطيف وإطلاق مسمى السعودية بدلا عن المسمى الأصلي للأرض وهو الجزيرة العربية أوالحجاز.أيضا فصراعات الإمامة في عمان والامارات العربية لا تخلو من تشويق في كيفية الإنقلابات والمؤامرات بين الأخوة وأبناء العمومة. بعبارة أكثر اختزالًا كانت أنظمة الحكم تخوض حروبا دموية بين بعضها البعض وداخل فئاتها الداخلية وتحصّل الزعامة وفق مقتضيات عسكرية صرفة يفرضها زعيم القبيلة أو الزعيم المتطلع للزعامة، ولم يكن هناك من خيار أمام الناس سوى ترقب الخوف والمخاطر الناتجة عن تلك الحروب، وهي وإن سلّمت بزعامة المنتصر فهو تسليم يتم عبر فرض القوة أو التخويف باستخدامها،كما حدث في تسليم القطيف والأحساء للملك عبد العزيز بن سعود حيث كانت سلطة الخوف والخطر أساس عقد البيعة.
المسألة ستأخذ مسارًا مختلفًا إذا ما تم تفكيك البنية الأسطورية للسلطة في “بيوت الحكم” الخليجية، لأننا سنكون أمام معادلة غامضة، ولغزٍ يبدو محيّرًا حول استمرار وبقاء أنظمة الحكم في المنطقة، والإستقرار الظاهري الذي تبدوعليه الواجهات السّياسية، باستثناء البحرين التي يغلب عليها اللإستقرار في الغالب.
المعادلة الغامضة واستراتيجيات التحالف
في بدايات سبعينات القرن الماضي، طرحت معادلة “دولة الرعاية مقابل البيعة السياسية” كإحدى التفسيرات التي تعمل على تقديم تفسير إستقرار الأنظمة في المنطقة. وكان واضحًا من طرحها وترويجها هو السّعي لإقناع الناس بمخرجات السلطة القائمة، لا اقناعهم بشرعية عمليّاتها. فعندما بدأت معالم الطبقة الوسطى تسعى سياسيًا للمشاركة في السلطة، تمّ إقناعها أن “المشاركة السياسية سلعة” يتم بيعها بالخدمات المجانية التي تقدمها الدولة للمواطنين، وتمّ تقديم صورة الحاكم على أنه شخص متفاني وملاك حارس للثروات، يضمن توزيع عادلا لها.
المخرج النهائي هذا لمعادلة دولة الرعاية يظهر هنا حيّز إنتاج المخاوف والمخاطر المتخيّلة من قبل رؤساء” بيوت الحكم ” بصورة واضحة جدًا، فالديمقراطية بحسب هذا البيان تعني إنتهاء الخدمة المجانية، وتعني أيضًا الحرمان من الثراء والثروة، اذا هي بعبارة واضحة ترهيب المواطن من العقد الاجتماعي ومن الديمقراطية من خلال التخويف بالأمن والثروة.
إستطاعت هذه المعادلة أن تلجم الأصوات السياسية الصاعدة منذ طرحها في السوق السياسية مطلع سبعينيات القرن الماضي، وتحت عناوين حماية المجتمعات الخليجية من “الوحش” اليساري/الشيوعي، تمّ تسويق معادلة الصمت السياسي مقابل العطاء المالي والخدماتي. وفي حقيقة الأمر كانت هذه المعادلة تعبّر عن هندسة سياسية في غاية الخطورة فيما يخصّ مسألة العقد الاجتماعي وشيطنة الأبعاد الديمقراطية فيه لصالح صيغة من صيغ “العقد الاجتماعي التقليدي المتخيّل” من جهة أخرى. كانت ” بيوت الحكم” وبحكم نزعتها العسكرية على قدر كافٍ من اليقين بأن المتخيّلات السياسية غير قادرة على إتمام حالات الضبط السياسي وأنّ نزعات العقد الاجتماعي سترى نفسها طافية على السطح بعد حين.
بحكم ما تقدّم يمكن إعادة النظرفي استراتيجيات التحالف التي دشّتنها ” بيوت الحكم” على أنها آليات دفاعية وحرب سياسية لمواجهة أخطار العقد الإجتماعي المتوقعة. واحد من أهم التحالفات هو الإرتباط مع النظام العالمي واستثمار مسألة الطاقة في تشبيك الحماية الخارجية مقابل السكوت عن المسألة الداخلية والإعفاء من متطلبات العقد الاجتماعي الديمقراطي. وهذا التحالف ابتدأ تاريخيًا مع تحول المشيخات الخليجية إلى بيوت حكم نظامية منتصف القرن التاسع عشر ” بعد اتفاقيات الحماية البحرية عام 1820″ واستمرّ ساريًا تحت عوانين مختلفة آخرها التحالفات الإستراتيجية واتفاقيات الحماية العسكرية من خلال القواعد العسكرية الأجنبية. عمليًا، وفّرت هذه الحماية الخارجية سندا قويا في استقلاليّة بيوت الحكم عن الداخل، لكنها في الوقت ذاته حوّلت مجتمعات الخليج إلى حدائق خلفية للقوى العظمى وفرضت قيودًا دولية على انجاز التحول الديمقراطي الذي شهدته بلدان عديدة منذ الموجة الاولى للديمقراطية ونهاية بالموجة الثالثة الديمقرايطة.
الخلاصة
في نهاية المطاف، يبدو أن مسألة العقد الإجتماعي الديمقراطي ستكون مسألة مؤجلة رغم استحقاقاتها الداخلية، وهذا التأجيل سيبقى محكومًا بمدى التغيير في معادلتين أساستين هما :
المعادلة الاولى: تفوّق بيوت الحكم في مصادر الثورة واستقلاليتهم شبه التامة عن المجتمعات.
المعالدة الثانية: التحالف الإستراتيجي بين بيوت الحكم والدول العظمى ذات المصلحة في المنطقة.