عباس الجمري- قناة الميادين-
يستغل الكيان الصهيوني عدداً من الأحداث في استراتيجية أستطيع أن أطلق عليها "تشبيك الأزمات" أو إلقاء "القنابل السياسية الموقوتة" في عدد من الأماكن، يكون مفتاحها في "تل أبيب".
هذه الاستراتيجيّة بدأت تطفو على السطح في السنوات الأخيرة، وتحديداً حين أسقطت الجمهورية الإسلامية الإيرانية طائرة مسيرة أميركية متطورة من طراز "RQ20" في حزيران/يونيو 2019.
وقد توقّع العالم أنّ حرباً ستقع بين العدوين اللدودين، وخصوصاً مع رئاسة دونالد ترامب الذي لم يحظَ بنصيب من الخبرة السياسية، والذي يفتقر إلى تقدير الأمور على وجه دقيق.
وحين هدد ترامب طهران برد مباشر، ومن ثم تراجع، أتى التصعيد الأميركي لاحقا باغتيال قائد "قوة القدس" قاسم سليماني في يناير 2020، أعقبه الرد الإيراني بعد أيام بقصف القسم الأميركي من قاعدة عين الأسد في العراق، وابتلاع أميركا صدمة القصف دون رد.
من هناك، تشكلت قناعة لدى الإسرائيليين بأنه لا بد من ضخ استراتيجية جديدة في شريان الكيان، وإلا ستتوقف الدماء في شرايينه. هذه الاستراتيجية قامت على نوعين من التشبيك: الأول تشبيك العلاقات، والآخر تشبيك الأزمات، ليكون الإسرائيلي وسطها مؤمّن من تلقّي الضربات المباشرة، أو على الأقل يخفّف من الضربات إذا ما وجهت إليه.
فكانت اتفاقات التطبيع أواخر عام 2020 مع الإمارات والبحرين، وهي دول لم تحارب "إسرائيل" ولا يوجد حدود متاخمة لها مع أرض فلسطين المحتلة، إنما جاءت هذه الاتفاقية للتشبيك الذي يضع البديل للولايات المتحدة، عبر تلاصق حلفائها في تحالفات وتشكيلات ذات طابع استراتيجي موحد.
بمجاورة ذلك التشبيك على مستوى العلاقات المتشعبة، ثمة تشبيك في الأزمات، فالكيان الصهيوني يفتعل أزمات حد اللحظة في سوريا عبر القصف المتقطع، ويفتعل أزمة حدود بحرية مع لبنان، ويفتعل أزمة اغتيالات مع إيران، ويدعم أذربيجان ضد أرمينيا، ويساند أوكرانيا ضد روسيا، ليقول: إنني أبني بيدٍ علاقات تقوم بوظيفة السياج الدبلوماسي والقانوني والأمني حواليَّ، وبيد أخرى أضرب هنا وهناك.
فيكون تشاغل أعداء إسرائيل على أوجه وبأقصى درجاته، ما يؤجل مواجهة شاملة قد تجهز على كيان متناقض من الداخل على رقعة جغرافية صغيرة وليست له أصلاً".
وبناء عليه، يرنو هذا الكيان المجروح بسيف القدس إلى أن تصهل فرسه ويعلو كعبها في نصر متوهم بوابته افتعال الأزمات الداخلية لأعدائه، لكنه يؤجل حلّ التناقض في الطبيعة الديموغرافية داخل هيكله، وما يسببه ذلك التناقض من مشاكل جمة تدفعه إلى التأكل، لأنه لا يجد حلاً واقعياً لهذه الديمغرافيا غير المتجانسة.
أضرار الخليج من الاستراتيجية الصهيونية
وفي هذا السياق تماماً، نشرت صحيفة "جورناليزم بوست" الإسرائيلية أواخر الشهر الماضي خبراً عما يعرف بـ"منتدى النقب"، وقالت إنه سيعقد في منتصف يونيو الجاري في مملكة البحرين.
الصحيفة، وعلى لسان وزارة الخارجية الإسرائيلية، قالت إنَّ المنتدى المذكور هو "هيكل أمني ضد أي تهديدات خارجية للدول الأعضاء". وبحسب الخبر، من المتوقع مناقشة التعاون الإقليمي وتشكيل مجموعات عمل حول الأمن والصحة والتعليم والسياحة والغذاء والأمن المائي والطاقة. وسيختار المنتدون -بحسب الصحيفة- الدول الرائدة لكل مجموعة.
وقد عقد أول اجتماع للمنتدى في مارس الماضي في "النقب"، وصاحب اللقاء وقتذاك حملة أقرب إلى الدعائية، تصور أن حدثاً تاريخياً خُط في ذلك التاريخ، وكتبه المنتدون بحبر التحول الجيوسياسي الموعود. هكذا صوّره الإسرائيليون والإماراتيون، بوصفهما أكثر الدول المتحمسة لهذا "الحدث".
تقديم "إسرائيل" في الاجتماع الأول للمنتدى، وربما في الاجتماع الثاني أيضاً كقطب الرحى في هذا التشكيل، لا يحتاج إلى تفسير أو تحليل، بل يؤكد ويعزز ما ذهبت إليه في بداية المقال، إلا أنَّ المشكلة التي ينبغي أن نبحث عنها في هذه الجزئية هي أن الأضرار الجانبية على العرب، وتحديداً دول الخليج، ستكون ملموسة وواضحة، لأنها إما تكون سياجاً، وتتلقى الضربات والصدمات، وإما سيتبدد تطلعها الأمني الرامي إلى الاستقرار، في ظل إشاحة وجه الولايات المتحدة عن المنطقة بشكل لافت، وإن لم تتخلَّ عنها.
تحاول أميركا أن تحتوي العديد من الأزمات، أحدها أمنها الداخلي، وتفاقم عوارض شح الطاقة، وهذا ما يؤشر اجتماع بيلدر بيرغ إليه، بعدما فاحت رائحته عبر تقرير نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية، إذ قالت الصحيفة إن جدول أعمال الاجتماع الـ68 لمجموعة بيلدر بيرغ مملوء بالفوضى والأزمات والاصطفافات الجديدة.
"إسرائيل" والخليج الجديد
تريد "إسرائيل" إذاً، في ظل كل تلك المعمعة القاتمة والفوضى الهوجاء، أن تؤسس لخليج جديد يسندها وقت الأزمات. وفي هذا الصدد، يعمل الكيان المؤقت لبناء:
1. منصات اقتصادية في الإمارات والبحرين تعزز بنيته.
2. مواقع أمنية في الخليج للمراقبة والرصد والضبط.
3. افتعال قضايا جانبية لتعويم قضية احتلاله أرضاً عربية.
4. شراء نخب ونواب وإعلاميين عبر "البروكسي" الخليجي في دول عربية عديدة، مهمتهم الوحيدة مشاغلة محور المقاومة عن قضيته الأساس، وافتعال مناكفات إعلامية وفي وسائل التواصل الاجتماعي يصبّ مجهودها في مصب واحد، هو نسيان قضية فلسطين.
لماذا تقامر "إسرائيل"؟
النجاح في الاستراتيجية المذكورة ليس مضموناً، لكن تأتي مثل هذه المقامرة لأنَّ حكومة نفتالي بينيت على صفيح ساخن من الوهن والترهل، إضافةً إلى الفشل الذي مُنيت به حكومته في أكثر من ملف داخلي، ما يدفعه إلى القيام بمغامرات عديدة لإثبات الوجود، وبحثاً عن نجاحات هنا وهناك يمكن استثمارها في ترميم صورته وتقويم مستقبله السياسي.
إلا أن الخطورة على دول الخليج التي دخلت في هذا الرهان أكبر من الإسرائيلي، لأن بإمكانها استثمار الوضع الدولي والتموضع في حيثية أكثر استقراراً من اصطحاب مصير كيان الاحتلال.
ما نتيجة رهان دول الخليج؟
إذا استمرَّت بعض الدول الخليجية في توثيق العلاقة مع الكيان الغاصب، فإن من المتوقع أن تستثمر "إسرائيل" في البنية التحتية لهذه الدول بشكل حثيث، لكونها بيئة للاستثمار والتنمية. وبذلك، يضطر الخليجيون إلى الانخراط أكثر في خيارات الكيان على المستوى الخارجي، وهذا الاحتمال القوي سيكون خطراً في ظلّ تمكن "تل أبيب" من التنفذ في الوكالة الدولية للطاقة.
وفي هذا الصدد، وصف وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، الجمعة 3 حزيران/يونيو الجاري، زيارة رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية لـ"إسرائيل" بالمخالفة لموضوعية الوكالة، وخصوصاً بعد حديث الإعلام عن أنَّ رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت بحث مع مدير الوكالة رافائيل غروسي وجهة نظر "إسرائيل" عن ضرورة وقف برنامج إيران النووي، مع الادّعاء أن "تل أبيب" تمتلك أدلة على خروقات خطرة لطهران في الملف النووي.
وعبّر رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي في مقابلة مع وسيلة إعلام عربية عن خطورة نفوذ "إسرائيل" في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، واصفاً ادعاءات الوكالة بأنها مكررة، وأن الجمهورية الإسلامية أجابت عنها مراراً.
وبناءً عليه، إن التعمق الخليجي في الانخراط مع الكيان الصهيوني له تداعيات متوقعة وتداعيات غير متوقعة، وستكون التداعيات غير المتوقعة هي التداعيات الأخطر على مياه الخليج حتماً.