موسى السادة-
هنالك ثنائية رائجة الاستخدام في الأدبيات السياسية العربية الراهنة، وهي ثنائية الشعوب والحكومات، أو خيارات الشعوب أمام تسلّط الأنظمة. في الأعم الأغلب، تعطي هذه الثنائية وصفاً اعتباطياً فيه الشيء الكثير من الصواب. فما يراد أن تعكسه هي تلك الهوة والفرق بين مصالح الطبقات الشعبية عن نظيرتها الحاكمة والمسيطرة، وعليه تتناقض هنا مصالح الطرفين. لكن النقطة المهمّة هنا، تكمن في تجنّب الوقوع في سذاجة تصوير خيارات الشعوب بالخيارات الصلبة غير المتحرّكة والتي تنحاز لما هو صالحها بالضرورة. وهو ما يتكرّر اليوم كثيراً، فحين تسأل أحدهم عن رأي سياسي فهو يهرب للأمام بالقول «أنا مع خيارات الشعوب»، لكن ما هذه الخيارات وكيف تصاغ؟ فهذه الخيارات ليست معلّقة في الهواء، بل هي بدورها نتاج عمليّات هندسة وصياغة وعي تعمل عليها المؤسسات السياسية والإعلامية والثقافية المهيمنة.
حين الحديث عن التطبيع مع كيان العدو الصهيوني، دائماً ما نردّد المراهنة على الوعي الشعبي، وأنه وإن طبعت السلطات الحاكمة فإن الركون على الوعي الشعبي كافٍ، وكأن الجبهة الشعبية محصنة بشكل ذاتي. بينما، وفي الواقع، إن عمليّة تحصين الشعب العربي من خطر شرعنة الوجود الصهيوني هي عمليّة مستمرة، فما نشهده اليوم من بقاء جيوب وشرائح صامدة من «تسونامي التطبيع»، كما يصفه أحد الناشطين المغاربة، يعود لعدة عوامل: هو غزارة الخزان التاريخي المتعلق بعلاقة الجمهور العربي بفلسطين، وذلك يعود لفترة كانت مختلف السلطات العربية، حليفة للأميركيين أم لا، مجبورة على تبنّي خطاب داعم للنضال الفلسطيني. الأمر الآخر أنه لعلاقة أي مواطن عربي بفلسطين مواد أوّلية ذاتية، من اللغة والثقافة والتراث الديني، وهذه المواد قائمة بذاتها إلى حد كبير. ولعل أهم هذه العوامل هو استمرار النضال الفلسطيني وعدم انقطاعه، هذه الحيوية النضالية الفلسطينية ضد الاستعمار كانت صمام الأمان ضد مشاريع التصفية، بل إنها كانت الجبهة المركزية ضد جهود اختراق وتزييف الوعي الشعبي، وتمرير التطبيع، عبر وسائل الإعلام المهيمنة، الخليجية منها والغربية. فكلما جهدت المؤسسات الإعلامية العربية على هندسة خطاب يطبع ويشرعن الاحتلال، وجدت نفسها أمام وجوب تغطية نضال فلسطيني، أو للمقاومة العربية بشكل عام، بما له أثر هدام على هذه الجهود.
فلسطين والخليج
بالأصل، لا يختلف الجمهور العربي في الخليج عن بقية العرب بالنسبة إلى التفاعل مع القضية الفلسطينية. بل إنه، وطوال العقود الماضية، كانت فلسطين والفلسطينيون محفّز النضال السياسي في الخليج. ينقل الدكتور الكويتي خلدون النقيب، أن سلسلة المطالب الإصلاحية في مختلف مدن الخليج (البحرين، الكويت، دبي) نهاية الثلاثينيات، لم تكن لتشتعل لولا أنه لم تستلهم من سنوات الإضراب الفلسطيني المريرة ضد الاستعمار البريطاني. وفي نهاية الأربعينيات وخلال الخمسينيات، يشير كاتب عربي خليجي آخر، وهو الأستاذ علي العوامي، في كتابه الذي وثّق فيه الإضرابات والانتفاضات العمّالية ضد شركة «أرامكو» (الحركة الوطنية السعودية)، أن هذه الإضرابات تأثّرت بالثقافة السياسية التي حملها العمّال العرب معهم، تحديداً الفلسطينيون. استمر هذا التفاعل، وإن بوتيرة منخفضة. قبل قرابة العام، التقت ناشطتان سعوديتان ضمن ندوة افتراضية متفاعلة مع فلسطين، لتكتشفا حينها أنهما كانتا في التظاهرة ذاتها إبّان الانتفاضة الأولى في مدينة الخبر السعودية. وقد تفاعل الجمهور ونزل إلى الشارع مع الانتفاضة الثانية، ومع حرب غزة عام 2008 تظاهر خالد العمير وحيداً ضد الحرب، ليعتقل وليكون عميد المعتقلين للوقوف مع فلسطين، وكان قد صرح العمير أن «السجن أحبُّ لي من أن أرى تلك الدماء التي سالت على أيدي الصهاينة المجرمين». وصولاً إلى الناشط عبد العزيز العودة الذي يقضي عامه الثالث في المعتقل على خلفية تغريدات مناهضة للتطبيع، والوقفات والمساهمات الخليجية إبّان معركة «سيف القدس». المفاد هنا أن العلاقة التفاعلية بين العرب في خليج مع نظرائهم في فلسطين لم تختف، ولكنها انحدرت وتعرّضت لضربات.
طوال العقود الماضية، كانت فلسطين والفلسطينيون محفّز النضال السياسي في الخليج
حاولت المؤرّخة الفلسطينية الراحلة روزماري سعيد تشريح هذه العلاقة التفاعلية التي تربط بين المجتمعات والدول الخليجية والمجتمع الفلسطيني. وهو تقسيم يفيد لفهم ديناميكيات ما تتعرّض له جبهة الوعي العربي والخليجي تحديداً من اختراق وكي للوعي. فبعيداً من رومانسية أن الوجدان الجماهيري هو ضد التطبيع، علينا وضع الإصبع على الجرح، وأن نعترف بأن عمليات كي الوعي وسلخ الجمهور عن وجدانه هذا قد سجّلت عبر السنين اختراقات كبيرة.
وفقاً لروزماري، تتخذ روابط الخليج بفلسطين شكل المثلث. يمثّل الضلع الأوّل فيها وحدة اللغة والثقافة والتاريخ، أي الهوية العربية، فيما يمثّل الضلع الثاني الإسلام والمكانة الدينية للقدس والمسجد الأقصى. أمّا الضلع الثالث، فهو، كما تبيّن، أشدّ تأثيراً من الضلعين الأولين، فهو الّذي يؤثّر كمّاً ونوعاً، سلباً وإيجاباً، في ديناميكية هذه «العلاقة المثلثية»، وهو دور الولايات المتحدة.
إنه وضمن هذه الديناميكية المثلثية يمكننا تشخيص وضع هذه العلاقة اليوم، مع التأكيد أن الإطار الأساسي لحجم المسافة التي تُبعد الجمهور الخليجي عن فلسطين، هو حجم اختلاف المستوى الاقتصادي والطبقي، فما يستهلكه الخليجيون مادياً وثقافياً تم سلخه من روابط عربية إلى سوق العولمة. وهذا ما يعطف على الأضلاع الثلاثة، فالبعد القومي تعرّض لهجمة مباشرة تستنبت المنطلقات الانعزالية والتمايز، بل إن هذا الخطاب الانعزالي من القوة التي أثّرت في الخطاب المضاد للتطبيع الذي أمسى في حد ذاته انعزالي المنطق. أي إن دافع مناهضة التطبيع هو مصلحة البحرين والسعودية والكويت كل على حدا. وليس فقط من خلال تصوير أن المشروع الصهيوني هو عدو لكل بلد عربي على حدا، وليس بوصفهم أمّة، بل إن التطبيع هنا، من منظور المصالح الانعزالية، سيسجل نقاطاً لصالح «إيران وجماعاتها». فنحن في زمن صنعت فيه الآلة الخليجية معادلة أن مقدار التزامك بالحق العربي في فلسطين هو مؤشر لقربك وتبعيّتك لأمّة أخرى غير العرب. الضلع الآخر، وهو الرابطة الإسلامية، وهنا يحصد أمراء وشيوخ الخليج اليوم زرع آبائهم للخطاب المعادي للديانة اليهودية، وأن الصراع قائم على أساس ديني. وعليه، فاليوم عملية التصفية قائمة على منطلق التوصيفات الدينية ذاتها ولكن من مرحلة العداء إلى التآخي والسلام بين الأديان.
الضلع الأخير، وهو الضلع الحاكم، وهو العلاقة مع الولايات المتحدة، والمسألة هنا لا تتعلق بالعلاقة السياسية بين الدول. بل إن عملية التشبيك الاقتصادية النيوليبرالية التي يتم بها إعادة تشكيل الاقتصاد الخليجي، تخلق بدورها طبقات اجتماعية بمستوى اقتصادي يحجّم من الروابط العربية-العربية إلى روابط مع المركز الرأسمالي، حيث تتشرب أدبياته ونظرته للعالم والصراع فيه. فيغترب العربي عن عروبته ومجاله الحيوي. ومن هنا يمسي «الأمن القومي» لكل بلد تورية للحفاظ على هذا المستوى الاستهلاكي مع السوق الغربية لهؤلاء المترفين، وتكون فلسطين والمقاومة من أجلها وبما فيها من تضحيات و«خسائر» تهديداً لكل من السلطة والطبقات الاجتماعية الواسعة التي تمت هندسة مصالحها بشكل يتناقض، لا يتقاطع، مع إخوتها العرب.
ومع إعادة ترتيب الأميركيين لنظام أمن حلفائهم في المنطقة، فإن العلاقة مع العدو الصهيوني ستصور وتمرر كمصلحة وطنية للحفاظ على الأمن والرفاه الفردي. وهو بمستوى من الخطورة بأن نسبة نجاحه واسعة النطاق، حيث لن تكفي هنا العلاقة الوجدانية العاطفية ورواسبها، إن كانت مصالحك وروابطك المادية مع السوق الرأسمالية وما تحمله من أيديولوجيا. فكل من الخطاب الانعزالي والتسامح الديني ليسا سوى أدوات تمرير وتبرير الامتياز الطبقي المرتبط بالمصالح الأميركية في المنطقة وكيان العدو في صلبها.
وعليه، اليوم تمثّل عمليّةُ مقاومة محاولات تطبيع الوجود الاستعماري الصهيوني ما هو أكبر من النشاطات السطحية والخطابية، فما تستلزمه المرحلة هو الانخراط في مشروع سياسي يستبدل البنى السياسية والاقتصادية الخليجية المهيمنة على المجالات العربية كافة، وفك ارتباطها وعلاقتها الأسيرة للمصالح الغربية، وينتقل من جمود رفض إعلان التطبيع الرسمي كغاية بحد ذاتها، إلى الانخراط في عملية الصراع مع العدو على كل الأصعدة.