دول » دول مجلس التعاون

ليسوا رجال المرحلة

في 2022/10/13

(فؤاد السحيباني\ راصد الخليج)

منَحتنا الإشارات القادمة من أحداث الرّبيع العربي، وحرارتها اللّافحة، فرصة مجانيّة للتعرّف على أسباب عديدة لسقوط الدول القوميّة، لم تعُد الحروب الخارجيّة هي السّبيل الأوحد لتفتيت بلد، ولم يعُد عدو الخارج وحدَه القادر على تدمير كل مقوّمات استمرار وطن، والاحتلال لم يعُد شرطًا لجعل أهلها شيعًا يضرب بعضهم رقاب بعض.

وفوق الإشارات السّاخنة، فإنّ هناك حقيقة كبرى في العالم العربي، وهي حقيقة قائمة في القاهرة، وستجدها في بغداد، وستُقابلها في دمشق أو بيروت، وهي أنّ مشاكل هذا الجزء من العالم، الذي نعتبره أمّة، واحد، مهما اختلفت خطوط الحدود، أو اختلفت مواقف حكوماته السياسيّة، أو حتّى تعدّدت أسماء دوله ومدنه، فإنّ هذا العالم العربي المنقسم على ذاته، تتحكّم به نفس الثّقافة، وتتقاذفه المخاوف ذاتها، ويخضع لنفس المؤثّر الخارجي، بل، وتمزّقه نفس المؤامرات، مهما اختلفت التّواريخ أو أسماء المتآمرين.

ولم تكُن دول عربيّة كبرى، تاريخها يُناطح التّاريخ الإنساني كلّه، بعيدة عن احتمالات السقوط، ولم تكن معصومة من التفكّك أو السقوط في فوضى مدمّرة، ولم تكن أيضًا الثروة عاصمة من عواصف التّغيير العنيفة، ليبيا على سبيل المثال لحقت بالعراق، وهي اليوم تمزّقت بين شرق وغرب، وشعبها الذي تعوم بلاده على ثروة هائلة من النّفط، سقط أسيرًا في يد ميليشيات تحكم بالحديد والنار.

في الحقيقة، فإنّ بعض الدوَل العربية، لا تحتاج لأكثر من خلطة بسيطة، يسقط فيها الحكم الشرعي، وتتحول بعد ذلك إلى نموذج ليبي جديد، ذلك أنّ نظام الحكم الديكتاتوري في الشرق العربي كلّه، يؤدّي إلى تكاثر الطّحالب حول السلطة المطلقة، وتكالب أصحاب المصالح الماليّة العابرة للحدود، وتقنين الفساد، حتّى يُصبح هو قانون البلد الأوحد، مكشوفًا عاريًا لا يتوارى ولا يعرف خجلًا، بل يفرض نفسه في وقاحة وقدر هائل من الفجور والشّراسة.

نظام الحكم المتسلّط يجعل من خلطة التّدمير الذاتي ممكنة، والغباء حين يُسيطر على مفاصل الدّولة تفتح المجال للانهيار، والعناد حين يُضاف على كلّ ما سبق، يجعلها ممكنة، بل وقريبة.

التّغيير في رأس السّلطة التنفيذيّة في المملكة، والذي جاء مفاجئًا في توقيته، حافلًا في دلالاته، جاء ليقدّم البُرهان الأوّل والأوفى على قُدرة أي نظام حكم على تبديد رصيد الشرعية ومخزون الثّقة، في آن، وبأبسط طريقة ممكنة، إذ كان من المُعتاد –والمنطقي- أنّ أنظمة الحكم في الشّرق الأوسط كلّه تقوم على مبدأ اختيار "أهل الثّقة"، وتفضيلهم على "أهل الخبرة"، وبقدر ما يثق الملك في شخص، فإنّه مرشّح تلقائيًا للتّرقي وبلوغ أرفع المناصب، وأخطرها.

لكن التّغيير عبر كلّ ما كنّا نظنّه متخيلًا من حدود معيّنة للسقوط، إذ أنّه جاء على مقاس شخص واحد فقط لا غير، وليذهب الحساب ويذهب المنطق قبله إلى الجحيم، فقط الأمير محمد بن سلمان هو الفتى الموعود والملك المفترض القادم، وكلّ ما حدث من تغييرات جاء لمدّ سلطانه الكامل على كلّ مفاصل البلد وأعصابها الحسّاسة.

وكما جاء تعيين ولي العهد في منصب رئيس الوزراء مخالفًا للنّظام الأساسي للحكم –الدستور السعودي- جاء كذلك تعيين شقيقه خالد لوزارة الدّفاع، عقب سقوطه المدوي في مسؤوليته السّابقة كسفير في واشنطن، والتي كان الفشل فيها أصعب من أن تتحمّله أعصاب الملك سلمان أو أوضاع المنطقة الهشّة، أو التّوازنات الدّقيقة التي تقوم عليها السياسة السعودية بكاملها، وتضع بموجبها كلّ رهانها على واشنطن، وليس غيرها، ليجبر الملك على إعادته إلى الرّياض، وتعيين الأميرة ريما بنت بندر في المنصب الحيوي، مع بلوغ علاقات البلدين أقصى درجات تردّيها.

وعلى الشاكلة ذاتها، جاء تعيين الأمير عبدالعزيز في منصب وزيرًا للنّفط، في وقتٍ تشتعل التحديّات وتتفاعل المؤثّرات على السّاحة العالميّة، والنّفط ليس المورد الأوّل للثّروة في المملكة، وفقط، لكنّه عصب قدرة الملك على التّأثير وحدود إمكانيّات الفعل أمامه، بكلمات أبسط، هو الرّوح بالنّسبة للمملكة والجالس على عرشها، سواء بسواء.

وأي مُتابع للشّأن السعودي، من قريب أو بعيد، يستطيع أن يردّ أزمة المملكة خلال السنوات الست الماضية إلى تراجع أسعار النّفط، ما حدّ من إمكانيّات المناورة محليًا ودوليًا، ومع اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية على أطراف القارة العجوز، والاقتصاديات الصناعيّة الضّخمة الشبقة إلى مصادر الطّاقة، حلّقت أسعار النّفط عاليًا، لتمنح المملكة فائضًا ماليًا للمرّة الأولى منذ 2015، رغم استمرار الإنفاق العسكري المروّع لتغطية الحرب العبثيّة في اليمن.

المفاجأة السعيدة حملت الخير إلى الموازنة السعودية، التي أنهكها الاستنزاف خلال السنوات الماضية، ولأوّل مرّة منذ 2016 تظلّلت الموازنة باللّون الأخضر، وحقّقت فائضًا ضخمًا بلغ 135 مليار ريال، تقدّر بـ 7% من النّاتج المحلّي الإجمالي، في النّصف الأوّل من العام المالي الحالي 2022، وبتقديرات متفائلة أن تصل الفوائض في نهاية العام الجاري إلى 335 مليار ريال، مدفوعة بارتفاع الإيرادات العامّة إلى 1338 مليار ريال، بنسبة زيادة 38% عن العام الماضي 2021.

لكن التّهديدات التي حملتها تقارير دوليّة عدّة، تؤشّر إلى وجود مخاوف حقيقيّة من انكماش عالمي، وعلى رأسها أحدث تقرير لصندوق النّقد الدّولي عن مستقبل الاقتصاد العالمي، أوضح فيه أنّ ثلث دول العالم مرشّحة لدخول مرحلة الكساد ابتداءً من العام الحالي، أو القادم على أقصى تقدير، كلّها جعلت من أسعار النّفط تهوي فجأة، لتدور حول سعر 55 دولارًا للبرميل، وهو أمر كارثي للاقتصاد السعودي، إذ يتحقّق تعادل الإيرادات مع المصروفات عند سعر يدور حول 70 دولارًا للبرميل.

جاء اجتماع أوبك+ العاجل، ليضع نقاطًا ساخنة فوق حروف متشابكة، وليقرّر أضخم خفض للإنتاج، بما يصل إلى مليوني برميل يوميًا، لترتدّ أسعار النّفط إلى ما فوق 90 دولارًا خلال الأسبوع الحالي، وهو موقف بالتّأكيد يضع المصلحة الوطنية فوق أي اعتبار آخر، سواء التّحالف مع واشنطن، أو العلاقات المميّزة مع دول غرب أوروبا.

لكن الأمير عبدالعزيز لم يستطع، مثل شقيقه، أن يُكمل الطريق لنهايته، أو على الأقل يلوذ بالصمت عقب قرار أوبك+ واستجابة الأسواق السّريعة له، لكنّه خرج في مؤتمر صحفي، ليردّ على سؤال بشأن توقّعات المنظّمة للتضخّم العالمي، بنكتة سخيفة "يا تنتن يا تنتن"، وينسبها للممثّل المصري عادل إمام.
في الحقيقة، ليست المشكلة في أنّ ذاكرة الأمير ضعيفة، وأنّ الجملة التي أضحكته وحدَه لفنان آخر، لكن المُصيبة في أنّه لا يعرف أنّ القرار بالتّأكيد سيزيد من مخاطر التضخّم، وسيدفع نسبها –المرتفعة أصلًا- إلى ارتفاعات جديدة بالغة الحدّة.

والكارثة الأكثر ألمًا، هي أنّ الأمير لا يعرف أنّ منصبه يحتّم عليه أن يبحث عن مصلحة بلده، والانخفاض الجنوني لأسعار النّفط بفعل بورصات التّعاملات المؤجّلة، والتي تُشبه ألعاب المقامرة، تفرض عليه أن يعمل على وقف هذا النّزيف بكلّ الطّرق، إذ ليس من المنطقي أن تترك منظّمة الدّول المصدّرة للنّفط الأسعار تنخفض في أيّام إلى النّصف، أو ترتفع في ساعات إلى الضّعف، دون أن تتدخّل وتمارس دورها بضبط السوق.

تعيين الأمير عبدالعزيز في هذا المنصب الخطر، والحسّاس، وفي هذا الوقت العصيب مع بروز احتمالات انهيار الأسواق فجأة، سيجعل من النّفط عدوًا لولي العهد، بدلًا من أن يكون حصانه الرابح إلى القصر، والموقف المتفجّر سواء بتوقّعات الأسوأ اقتصاديًا، أو بأثمان وتكاليف الحرب التي تتوزّع على الجميع لا يترك مجالًا للشكّ في أنّ أبناء الملك ليسوا بالتأكيد رجال المرحلة، ومن المُثير للرّعب أنّهم الآن يمسكون بكلّ مفاتح الثّروة والسّلطة والقوّة في المملكة، استعدادًا للحظة الحسم، والتي يُعلن فيها رسميًا انتقال العرش إلى الأمير محمد، الذي ستنتظره بالتّأكيد أسئلة عن الكفاءة، بالقدر ذاته الذي يتحتّم فيه أن يجيب عن سؤال الشرعية.

ربّما تكون من ضمن حُجج صنّاع الرّأي خلف الكاميرات، وفي أروقة القصور وأقبيتها المُظلمة، أنّ جلوس الملك الجديد على العرش، دون النّظر للشكليّات، تُعطي للسياسات الخشنة ذرائعها الذاتية، كما أنّ الانتقال إن تحقّق سلسًا، سيمحو من ذاكرة المجتمع السعودي أي اعتبار غيره، وبالتّالي يضيع مع النسيان غياب المنطق، وقصور الحجج الشرعيّة مهما عراها الالتباس.

وملخّص هذا الرأي –الواقعي كما يقول أصحابه- إنّه عندما يصحو الشّعب السعودي، والعالم، ذات صباح ليكتشفوا أنّ لواء الأمير مرفوع فوق أعلى الذرى في الرياض، فإنّ صفحة ما مضى ستُطوى فورًا، وتحلّ محلّها صفحة جديدة، جلها صور مضيئة وبراقة، قادرة على سرقة كلّ الانتباه من أصحاب العقول.

وسيكون المشهد لدى القوى القادرة على الفعل في السعودية، على الشّكل التّالي، الدولة السعودية مشغولة بترتيب ما يمكن اعتباره احتفال نصر، وزهو قيادة جديدة تسيطر على المستقبل وتحكمه، والعالم هو الآخر مشغول بأمر واقع جديد له سطوته، وسيفضّل غالبًا التّعامل معه، خصوصًا إذا ضمن النّظام الجديد مصالح القوى الكبرى، وكلّ القادرين داخل الأسرة المالكة معزولين مكسوري الخاطر، وليس أمامهم إلّا أن يعودوا طوعًا أو كرهًا إلى حضن النّظام الجديد.

لكن مستقبل الدول لا يتقرّر، أبدًا، بهذه البساطة الغارقة في التفاؤل، ولن يكون.