دول » دول مجلس التعاون

محاولات تشكيل الشرق الأوسط ستبقى مجرد أوهام.. ما لم تعالج جذور الصراعات

في 2023/08/02

مجلة فورين أفيرز- 

نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالاً لمدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مجموعة الأزمات الدولية، جوست هيلترمان، قال فيه إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنهى، في منتصف شهر تموز/ يوليو، جولة رفيعة المستوى في السعودية وقطر والإمارات، وعقدَ صفقات استثمارية بعشرات المليارات من الدولارات. وكانت الرحلة تتويجاً لذوبان الجليد الدبلوماسي بين تركيا والحكومتين السعودية والإماراتية، بعد ما يقرب من عقد من العلاقات الجليدية.

في الواقع، أصبح هذا التقارب ممكناً من خلال استئناف قطر، حليفة تركيا، العلاقات مع الرياض وأبو ظبي، بعد انقطاع دام سنوات.

في حزيران/ يونيو، قبل أسابيع قليلة من زيارة أردوغان، جدّدت قطر والإمارات العلاقات الدبلوماسية الرسمية.

وفي عام 2020، عقدت إسرائيل علاقات مع البحرين والإمارات في اتفاقيات أبراهام. وبعد بضعة أشهر، مع المغرب ثم السودان.  وفي آذار/ مارس 2023، اتفقت إيران والسعودية على استئناف العلاقات الدبلوماسية، بعد سبع سنوات من العداء المتبادل. وفي أيار/ مايو، تم الترحيب ببشار الأسد، في جامعة الدول العربية، بعد أكثر من عقد من العزلة.

ويعلق الكاتب بأنه، للوهلة الأولى، يبدو أن موجة صفقات التطبيع المنتشرة في جميع أنحاء المنطقة تشير إلى انفصال عن عقد من الاضطرابات التي أطلقتْها الانتفاضات العربية 2010-2011.

 قررت الدول، التي اتّبعت نهجاً عسكرياً تجاه بعض صراعات المنطقة، بشكل مباشر أو بالوكالة، في الوقت الحالي على الأقل، أن الدبلوماسية هي طريقة أفضل لتعزيز مصالحها.

قد يكون اليمن مثالاً على ذلك، حيث انخرطت الرياض، على مدار العامين الماضيين، في محادثات مع المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران، في محاولة لإنهاء الحرب.

وهذه هي الفوائد المتصورة للتطبيع التي تقترحها إدارة بايدن الآن؛ أن التقارب بين إسرائيل والسعودية قد يساعد في إنقاذ عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية المحتضرة.

لكن يجب على المراقبين أن يحرصوا على عدم المبالغة في هذا التغير الظاهر. فإن العديد من الدوافع الكامنة وراء صراعات المنطقة لا تزال دون معالجة إلى حد كبير: الجدل حول دور الإسلام والإسلاميين في الحكومة. العداء الطويل بين إيران وكل من إسرائيل وبعض الدول العربية. الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، الذي يواجه عنفاً جديداً متسارعاً وسط صعود حكومة يمينية متطرفة في إسرائيل. إضافة إلى الافتقار إلى الحكم الفعال في المنطقة، والذي يعززه الحكم الاستبدادي في المنطقة، وفي الواقع، قد يكون تطبيع العلاقات بين الحكومات المختلفة قد زاد من ترسيخ بعض هذه المشاكل.

يمكن القول إن موجة التطبيع بدأت في عام 2019 بين الإمارات وإيران. وفي زيارة لطهران، في ذلك العام، أشار كبار المسؤولين الإماراتيين إلى أن أبو ظبي لا ترغب في أن تكون مرتبطة بمحاولات الولايات المتحدة للضغط على طهران، لا سيما في أعقاب قرار ترامب بسحب الولايات المتحدة من جانب واحد من الاتفاق النووي مع إيران.

بالنسبة لإيران، قدّمَ الانفتاح مهرباً محتملاً من عزلتها النسبية في المنطقة، مع احتمال الاستثمارات الإماراتية في اقتصادها المتعثر. من جانبها، كانت الإمارات تسعى إلى إستراتيجية أمنية جديدة وسط المواجهة الخطيرة بين إيران والولايات المتحدة. وخاصة بعد عدم تحقيق نتائج جيدة من التدخل العسكري في ليبيا أو اليمن، وفقدان الثقة بالضمانات الأمنية الأمريكية.

إدراكاً لنقاط ضعف جديدة، شرع القادة الإماراتيون في نهج أكثر دبلوماسية تجاه المنطقة. بعد الانفتاح على إيران، في عام 2019، قرروا إضفاء الطابع الرسمي على علاقتهم طويلة الأمد، ولكن السرية في الغالب، مع العدو اللدود لإيران، إسرائيل، في اتفاقيات أبراهام. ومن المفارقات أن علاقات الإمارات المحسّنة مع إيران ربما تكون قد سهّلت اتفاقها مع إسرائيل، حيث لم يكن لدى إيران سوى خط أحمر واحد: لا وجود عسكري إسرائيلي في الخليج.

أدى انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، في عام 2020، إلى تسريع الشعور السائد بين القادة العرب بأنهم بحاجة إلى الاعتماد بشكل أكبر على دبلوماسيتهم لمعالجة التوترات الإقليمية. فقد بدت الولايات المتحدة وكأنها تتطلع إلى الداخل، وفي السياسة الخارجية، كانت إدارة بايدن تعيد إحياء التمحور “نحو آسيا”، الذي قررته إدارة أوباما.

وتدهورت علاقات واشنطن بالرياض على وجه الخصوص، حيث نَبَذَ بايدن الزعيمَ الفعلي للسعودية، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وحمّلَه مسؤولية مقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي، عام 2018. كما أشار بايدن إلى أنه يريد أن تعود الولايات المتحدة إلى الاتفاقية النووية مع إيران. حيث كانوا قلقين للغاية بشأن الكيفية التي قد تسعى بها إيران لإبراز قوتها في المنطقة إذا خففت واشنطن من العقوبات مع اتفاق نووي جديد.

هذا منح وقوداً جديداً للدبلوماسية الإقليمية. في عام 2021، قررت السعودية وحلفاؤها الخليجيون إنهاء حصار دام أربع سنوات على قطر، على الرغم من عدم تلبية قطر لأي من المطالب الأصلية لدول الحصار.

في غضون ذلك، كان لحكومة أردوغان في تركيا دوافعها الخاصة للعودة إلى الدبلوماسية. لأكثر من عقد من الزمان، تدهورت علاقات أنقرة مع السعودية والإمارات ومصر بشدة. على الرغم من أن تركيا انتصرت في ليبيا، ونجحت في مساعدة أذربيجان على استعادة أجزاء من ناغورنو كاراباخ والمناطق المجاورة، في عام 2020، إلا أن دعمها لـ “الإخوان المسلمين” المصريين، وغيرهم من الإسلاميين في المنطقة، أثار حفيظة تلك الحكومات العربية. ومع ذلك، فقد رأوا أن جهودهم لتقييد الإسلاميين قد نجحت إلى حد كبير، أولاً في انقلاب الجنرال عبد الفتاح السيسي، عام 2013، ضد الرئيس وزعيم “الإخوان المسلمين” محمد مرسي في مصر، ثم تدريجياً في أماكن أخرى أيضاً. وكما أظهرت رحلة أردوغان الأخيرة إلى الخليج، فإن تطبيع العلاقات، على الأقل في التجارة، يمكن أن يعني دفعة كبيرة للاقتصاد التركي الذي يعاني.

ظهرت بعض النتائج الأكثر دراماتيكية لحملة التطبيع الجديدة في الشرق الأوسط، في النصف الأول من عام 2023، في اتفاق السعودية وإيران على استعادة العلاقات الدبلوماسية في آذار/ مارس. فقد حافظ كبار المسؤولين الأمنيين الإيرانيين والسعوديين على حوار ثنائي متقطع لبضع سنوات حتى تدخلت الصين، التي أدركت ان هناك فرصة التدخل مع انشغال واشنطن، في وقت مبكر من هذا العام.

مع ذلك، كانت هناك خطوة تطبيع مدهشة أخرى تتمثل في جهود بعض القادة العرب لإعادة العلاقات مع النظام السوري. قادت الإمارات الطريق بإرسال وزير خارجيتها إلى دمشق، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، وزيادة المساعدات والتجارة. ثم في أيار/ مايو، أعادت جامعة الدول العربية إدخال النظام السوري إلى صفوفها، بعد دفعة أخيرة من السعودية. كما استأنفت تركيا المناقشات مع دمشق هذا الربيع ، بدفع من روسيا، وحرصت على الإعلان، قبل الانتخابات الرئاسية في أيار/ مايو، أنها تسعى بنشاط لإيجاد طريقة لعودة اللاجئين السوريين إلى سوريا.

من منظور خفض الصراع، فإن تحول الشرق الأوسط إلى الدبلوماسية والتطبيع يقدم فوائد لا جدال فيها.

العديد من الصراعات المتشابكة في المنطقة؛ بين إسرائيل و”حماس”، وإسرائيل وإيران، وإسرائيل و”حزب الله”، ليست إلا على بعد شعرة من التصعيد الكبير.

ولهذا فإن وجود خطوط اتصال ودبلوماسية نشطة أمر بالغ الأهمية.

ويتساءل الكاتب عما يعني كل هذا، وإذا كان هناك ما سيساعد في معالجة القوى الأعمق الدافعة للصراع في المنطقة، فهو أمر غير مؤكد.

مثلاً، يعد الجدل الطويل حول دور الإسلام في الحكومة، وخاصة في أكثر أشكاله تنظيماً، جماعة “الإخوان المسلمين”، أحد هذه الدوافع، ما يؤدي إلى تكرار عدم الاستقرار والتوتر في دول مثل مصر وبين قطر والإمارات، على وجه الخصوص. لجعل الأمور أكثر تعقيداً، يتم التوسط في قضية الإسلاميين وإعادة تشكيلها من خلال الاختلافات العرقية والطائفية، وكذلك من خلال تطلعات بعض الدول إلى الهيمنة الإقليمية.

اليوم، على سبيل المثال، بعد عامين من اتفاقية العلا، لا تزال الإمارات بعيدة عن قطر وتركيا، ناهيك عن إيران، في ما يتعلق بمسألة دور الإسلام في الحكومة. وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن يتولى الإسلاميون السلطة في أي مكان في أي وقت قريب، فإن الدعم الشعبي الذي لا يزالون يتمتعون به في جميع أنحاء المنطقة، وفطنتهم التنظيمية هي مسألة تتعلق بالاهتمام الإماراتي الدائم.

كما سلط اتفاق العلا الضوء على نوايا محمد بن سلمان تحويل السعودية من دولة تعتمد على النفط ومحافظة اجتماعياً إلى قوة عالمية متوسطة على قدم المساواة مع إندونيسيا أو البرازيل. ولهذه الغاية، يقوم بتهميش رجال الدين. إضافة إلى تنويع الاقتصاد بعيداً عن النفط. وكذلك السعي لدور جديد في حل النزاعات الإقليمية.

وبالمثل، من غير الواضح إلى أي مدى سيغير الاتفاق السعودي الإيراني من بروز قوة إيران في المنطقة. على المدى القريب، يمكن للصفقة أن تخفض التوترات الإقليمية بشكل كبير، لا سيما في اليمن. لكن على الرغم من أن إيران قد تدفع الحوثيين إلى عقد صفقة مع السعوديين، فمن غير المرجح أن تقلل من تواجدها الإقليمي، أو تقلل من دعمها لوكلائها وحلفائها، مثل الحوثيين أو “حزب الله” أو الجماعات شبه العسكرية في العراق أو النظام السوري، ولكن من المرجح أن تستمر السعودية وإيران في التنافس على القوة والنفوذ الإقليميين.

تأتي اتفاقيات أبراهام أيضاً مع قيود كبيرة. على الرغم من أنها تشكل تغييراً كبيراً في الاصطفافات الإقليمية، إلا أنها تركت العديد من دوافع الصراع الأساسية، لا سيما في ما يتعلق بالاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، دون معالجة، بل رسختها. تستمد إسرائيل والإمارات منفعة متبادلة من إبراز العلاقة المفتوحة التي كانتا ترعاهما في الظل، لسنوات عديدة. ولكن لا ترقى العلاقة إلى مستوى رغبة إسرائيل في تحالف مناهض لإيران. وقد دفن التقارب السعودي والإماراتي مع إيران آفاق مثل هذا التحالف على أي حال.

لقد كان تأثير الاتفاقيات مدمراً بشكل خاص على السلام الإسرائيلي الفلسطيني. بالنسبة لأولئك في واشنطن الذين يعتقدون أن تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل يمكن أن يحقق تقدماً في الوضع الفلسطيني، يجدر النظر في نتائج الصفقات القائمة، فقد جادل المسؤولون الإماراتيون بأن توثيق العلاقات الإماراتية مع إسرائيل سيؤثر بشكل إيجابي على هذه القضية، لكن حتى الآن ليس لديهم نتائج تذكر. بل بالعكس؛ قامت إسرائيل بتوسيع المستوطنات، واتباع إجراءات عسكرية أكثر صرامة في الأراضي المحتلة. بينما يواصل الفلسطينيون التطلع إلى دولة مستقلة خاصة بهم، أو تطبيق حقوق متساوية لجميع الناس في المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، وهو أمر غير مقبول لمعظم الإسرائيليين. ما يظهر بدلاً مِن ذلك هو نظام فصل عنصري، الآن بدعم فعّال من الأطراف العربية لاتفاقيات أبراهام.

 من غير المرجح أن تساعد موجة التطبيع في الشرق الأوسط سكان المنطقة الذين يعانون. لأن الدافع الأعمق للصراع له علاقة بكيفية إدارة الدول لاقتصاداتها وحكم مجتمعاتها، فذلك هو الذي دفع الناس إلى الشوارع، خلال انتفاضات 2011، وأطلقوا صرخة مشتركة من أجل العدالة الاجتماعية. بعض البلدان التي نجت من الاضطرابات، في عام 2011 -الجزائر ولبنان والعراق والسودان- شهدت شكلاً من أشكاله بعد ثماني سنوات، وكان لإيران نسختها الخاصة، العام الماضي.