(مبارك الفقيه \ راصد الخليج)
هذا السؤال يطرح نفسه بقوة في ظلّ تصاعد التطوّرات الميدانية على مسرح النار التي تجتاح الجبهة الإسرائيلية – الفلسطينية. فبعد سبعة أيام من اندلاع المواجهات الضارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتسارع المضطرد لعدّاد القتلى والجرحى والأسرى في صفوف الجانبين. ومردّ السؤال بشأن صراع الدبلوماسية والحرب يعود إلى معطيين. الأول: زيارة وزير الخارجيّة الأميركي "انتوني بلينكن" ثمّ زميله في وزارة الدفاع "لويد أوستن"، إلى "تل أبيب"، والثاني: زيارة وزير الخارجية الإيراني "حسين أمير عبد اللّهيان" إلى بيروت ودمشق.
في كلا المعسكرين، سمعنا كلامًا عالي السّقف من أعلى مستويات التمثيل الرّسمي، في طهران وواشنطن، فالرئيس الأمريكي "جو بايدن" وافق أخيرًا على فتح خطوط الاتصال مع "بنيامين نتنياهو"، وأطلق مواقف تصعيديةّ أكد فيها تبنّي الإدارة الأمريكيّة لـــــ"إسرائيل" بالكامل، وإمدادها بما تحتاجه من الأسلحة والذخائر المدمّرة، وإرسال حاملة الطائرات الاستراتيجيّة "جيرالد فورد". فيما استثار "بلينكن" "الدموع" وهو يتحدّث بـ "حزن عميق" ملتصقًا بـــــ"نتنياهو" عن هويته اليهوديّة التي تدفعه – وليس موقعه وزيرًا للخارجية – لدعم إسرائيل بكلّ خياراتها السّياسيّة والعسكريّة لتدمير حركة "حماس" بقدراتها الحربيّة والتمثيليّة، وإزالة قطاع غزة عن الخريطة الفلسطينية.. كل ذلك قدّمته واشنطن؛ إلا أنّها لن ترسل أي جندي أمريكي ليشارك على أرض الميدان.
أما على المستوى الإيراني، فإنّ "عبد الّلهيان" الذي التقى أمين عام حزب الله "السّيد حسن نصر الله" والرئيس المؤقت للحكومة اللبنانية ونظيره "عبد الله بو حبيب"، أعاد مكرّرًا المواقف التي أعلنتها بلاده من رأس الهرم على لسان المرشد "علي الخامنئي" إلى باقي الوزراء ومجلس الشورى فيه. وكلّها مواقف تؤكد وقوف إيران إلى جانب الشّعب الفلسطيني في حربه ضد إسرائيل، والاستعداد لتقديم كلّ أشكال الدعم لتغليب كفّة فضائل المقاومة في ميزان الصراع المتفجر، والمرجّخ أن يستمر لأيام؛ بل لأسابيع قادمة.
على خط موازٍ، تبدي الدوائر العسكريّة الإسرائيليّة وعلى رأسها وزير الدفاع "يوآف غالانت" استعدادها للمباشرة في عملية جرف قطاع غزة ووضع حد لـ "طوفان الأقصى" ولكنها تنتظر القرار السّياسي، والذي ينتظر بدوره نتائج جولة "بلينكن" على كلّ من الرياض وأبو ظبي والدوحة وأنقرة، وبما أنّ هذه النتائج قد تأخذ مدة غير قصيرة من الوقت، سارع "أوستن" ليحلّ مكان "بلينكن"، ليس لتأكيد الدعم الأمريكي، بقدر ما هو ملء الفراغ الدّبلوماسي واستمراريّة الرقابة المباشرة على "نتنياهو" وحكومته العسكرية الطارئة، والتأكد من التزامه بالبرنامج الذي وضعته الإدارة الأمريكيّة لمعالجة الأزمة ولجم إمكان التدهور العسكري من أن تتوسّع باتجاه حرب لا تريدها واشنطن – ولا حتى إسرائيل - في هذه المرحلة في الحدّ الأدنى..
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ معظم الخبراء العسكريين يؤكّدون أنّ الجيش الإسرائيلي يحتاج إلى ثلاثة أسابيع لينهي استعداداته وجهوزيته القتالية والتسليحية والميدانية للدخول بعملية بريّة، وأن الأميركيين يدركون أن هذا الجيش غير مؤهل لخوض حرب طويلة. وأي مراقب لمجريات الحوادث التي حصلت، خلال الأسبوع الماضي، يدرك أنّ الأمور معقّدة للغاية بما لا يسمح بحسم مآل المسارات الراهنة، فإسرائيل مستمرة في تحمّل كلفة أغلى فاتورة تدفعها منذ العام 1948، فعدد القتلى والجرحى بالآلاف والأسرى بالمئات والخسائر الاقتصادية بمليارات كثيرة من الدولارات، وهي مرجّحة للزيادة وسط تعطّل المرافق الإنتاجية الحيويّة الإسرائيليّة، هذا فضلًا عن أنّ الانقسامات آخذة في التعمّق أكثر بين القيادة والجمهور الإسرائيلي الذي يعيش رعبًا حقيقيًا من خطر الموت وانهيار "حلم" إسمه إسرائيل... كلّ ذلك؛ وما نزال، في الأسبوع الأول، من الحرب وصواريخ "حماس" بدأت تستهدف "تل أبيب" و"حيفا"، فكيف لو اتخذت حكومة "نتنياهو" الطارئة قرار التوغل في قطاع غزة، وبدأت حرب الإلغاء المتبادلة، اولتي لن تقف عند حدود القطاع؛ بل ستشمل كامل فلسطين .. شمالًا إلى جنوبها وشرقها وغربها ووسطها؟!
ممّا لا شكّ فيه أنّ حربًا كهذه ستلحق الدّمار الشامل في قطاع غزة على مستوى الحجر والبشر والمقدّرات، ولكن ليس معلومًا أنّها ستنجح في القضاء على المقاومة الفلسطينية، وهي التي تؤكد أنّها ما تزال تمتلك زمام المبادرة وتحضّر كثيرًا من المفاجآت في سياق الاستعداد الميداني للحرب البريّة... وليس معلومًا إذا ما استدرجت هذه الحرب تدخلًا مباشرًا لـــ"حزب الله" وإيران والحوثيين والفصائل العراقية، ولن تكون المدن والمستوطنات في إسرائيل مستهدفة وحدها بالصواريخ والتوغلات البريّة، ولا سيّما من جنوب لبنان؛ بل ستكون المصالح والمراكز الأمريكيّة والأوروبيّة في منطقة الخليج والدّول العربيّة والعالميّة تحت خطر الاستهداف المباشر والمدمّر؛ وهذا الاحتمال وارد بقوة في تفكير القيادات الأمريكيّة والإسرائيلية، ولئن حصل هذا الأمر فسيكون مقدّمة لكارثة عالمية تقود إلى تدمير المشروع الاستعماري الغربي الذي عمل على بنائه لمئات السنين من خلال إنشاء "دولة إسرائيل".
ولئن وقفت غالبية الدّول العربيّة حتى الآن موقف المتفرج والحيادي إزاء الإبادة العرقيّة التي تمارسها إسرائيل بحق الشّعب الفلسطيني، إلا أنّ الشّعوب الغاضبة المعادية لإسرائيل التي تحتشد في كلّ من بيروت وبغداد وصنعاء ودمشق وعمّان وغيرها من العواصم العالميّة، فمّا لا شكّ فيه أنّها ستؤدي دورًا فاعلًا في ترجيح كفة الحرب لصالح الفلسطينيين. وأيضًا؛ ممّا لا شكّ فيه أنّ مشاهد المجازر الإسرائيلية الشنيعة التي تستهدف الأطفال والنساء، وتدمّر المسكان والمساجد والمؤسسات، وإجراءات القتل غير المباشر المتمثلة في منع الماء والكهرباء والإمدادات الطبية لقطاع غزة، ستكون دافعًا لهذه الشّعوب للتحرّك أكثر، ليس في عواصمهم فقط؛ بل في أي مكان يوجودون فيه، ولعلّ قيام حارس الأمن المصري بقتل السّياح اليهود في مصر خير دليل على ردّ الفعل المتوقعة.
إستنادًا إلى كلّ ما سبق.. وكلّ ما سبق حاضر لدى أصحاب القرار في واشنطن وتل أبيب وطهران وبيروت، ولدى قيادات المقاومة الفلسطينية، هل تلقي إسرائيل نفسها في فم التنين أم أنّ لديها حسابات أخرى؟ وهل تضحّي واشنطن بوليدها ومشروعها، في منطقة الشرق الأوسط، نتيجة حسابات خاطئة؟ وماذا لو تحوّلت الولايات المتحدة نفسها إلى هدف مباشر، وهي التي تعاني الإنهاك والاستنزاف نتيجة دعمها الحرب الأوكرانية – الروسية، فيما المارد الصيني ومثيله الكوري الشمالي ومعهما روسيا سيقفون يصفقون، وهم يرون أمريكا ومعها اوروبا المتشظّية تغرق في أوحال فلسطين؟
السؤال الأهم: ماذا لو انتصر محور إيران في هذه الحرب.. كيف سيكون موقف عواصم القرار العربيّة في الخليج، وهي التي لم تحرك ساكنًا في دعم فلسطين وشعب فلسطين؟