متابعات-
أواخر شباط الماضي، وصل مدير المخابرات المركزية الأميركية وليام بيرنز في زيارة سرية إلى المنطقة. بداية التقى مدير الموساد الإسرائيلي ديفيد بارنيع وسمع منه خلاصات وجهة النظر الإسرائيلية. بعدها انتقل إلى الدوحة للقاء رئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن، قبل أن يصل إلى قطر، أيضاً، مدير المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل. وبعد سلسلة اجتماعات، تمّ التواصل مع قيادة حركة حماس، وتركّز النقاش على سبل إقناع الحركة بإبداء مزيد من المرونة، ليتبين أن المطلوب من الحركة الموافقة على آخر نسخة من «أوراق باريس»، وأن يصار إلى الإعلان عن هدنة تمتد من أول آذار إلى ما بعد عطلة عيد الفطر في الثلث الأول من نيسان المقبل، على أن تقتصر المبادرة على الآتي:- وقف شامل لإطلاق النار في كل مناطق القطاع، ووقف الطلعات الجوية داخل أجواء القطاع لمدة 8 ساعات يومياً فقط.
- إخلاء قوات الاحتلال مناطق يوجد فيها عدد كبير من السكان من دون تحديد دقيق للخريطة.
- إدخال 500 شاحنة من المساعدات يومياً يتم نقل ثلثها إلى شمال القطاع حيث سيُسمح للنساء والأولاد التوجه إليه من مناطق الجنوب.
- إجراء عملية تبادل تشمل 35 مدنياً إسرائيلياً من نساء وأطفال ومسنّين وخمس مجندات، مقابل 404 معتقلين فلسطينيين، بينهم أربعة تختارهم إسرائيل من المحكومين بعدد من المؤبّدات.
وفيما لم تكن قيادة حماس بحاجة إلى مزيد من الشرح لأسباب رفضها للاقتراح، تحدّث المصريون خصوصاً عن إمكانية إدخال تعديلات أثناء تنفيذ الاتفاق، سواء لجهة كمية المساعدات أو مسألة التنقل بين الشمال والجنوب أو عدد المعتقلين. لكن، لا بيرنز ولا كامل ولا الجانب القطري، حملوا أي تعهّدات أو التزامات إسرائيلية بالسير نحو وقف تام للحرب، وهو ما دفع حماس إلى تكرار رفضها. علماً أن بيرنز وكامل حاولا الإيحاء بوجود مرونة لدى العدو واستعداد لتقديم تنازلات، كالتخلي عن الطلب بأن تسلم حماس الإسرائيليين قائمة بالعدد الكامل للأسرى وهوياتهم وكشف مصير الأحياء منهم أو الأموات. وفيما كانت حماس أكّدت أمام الوسطاء، مراراً، أن هذا البند ليس محل نقاش في أي مرحلة من المراحل، كان جوابها هذه المرة أن «ملف الأسرى، بكل تفاصيله، موجود لدى قادة المقاومة العسكريين في قطاع غزة. ونحن في القيادة السياسية ليست لدينا أساساً هذه التفاصيل، ولسنا في صدد طلبها. كما أن القيادات العسكرية، لأسباب أمنية لن تعطي سرها لأحد، لا الآن ولا في أي مرحلة من المفاوضات، قبل حصول اتفاق على التبادل». وشدّدت حماس على أن موقف القيادات العسكرية واضح، وهو ما أعلنه الناطقان باسم كتائب عز الدين القسام وسرايا القدس، لجهة التأكيد على أن المقابل المفترض بالعدو دفعه لقاء الإفراج عن أسراه، سواء كانوا أمواتاً أو على قيد الحياة، سيكون هو نفسه الثمن المطلوب الآن، وأن المقاومة هي التي تحدد هوية وفئات من يجب إطلاق سراحهم في كل مرحلة من مراحل التبادل.
طبعاً لم يرُق الأمر للوسيطين المصري والأميركي. فحاول الأول اعتماد طريقة جديدة للتفاوض، طالباً من رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية التوجه إلى القاهرة والبقاء هناك حتى التوصل إلى اتفاق. فردّت الحركة بأن زيارة هنية الأولى كانت تقديراً للجهود المصرية، أمّا وأن البحث يتعلق بتفاصيل معينة، فهذا الأمر منوط بفريق سياسي – تقني، لكن ليست لديه صلاحية اتخاذ القرار مثله مثل بقية الوفود، وأن التفويض المعطى له هو التعامل بانفتاح ومرونة مع العروضات. وأتبعت قيادة الحركة رسالتها بتوضيح نهائي، سمعه القطريون والمصريون وفيه:
أولاً، إن هاجس المقاومة الآن هو وقف الحرب والعدوان، ولا مجال لتقدّم أي ملف على هذا الملف، والأمر يتم من خلال إعلان رسمي صادر عن الولايات المتحدة يلزم إسرائيل بالشروع في إنهاء الحرب، وبدء عملية الانسحاب الكامل من كل مناطق غزة، وأن الخطوة المتلازمة هي المتعلقة بعملية الإغاثة والإيواء للنازحين، على أن تغادر قوات الاحتلال كل المناطق السكنية في جنوب القطاع ووسطه وشماله، وأن تنسحب إلى حدود القطاع، مع إطلاق أكبر عملية إغاثة تشمل توفير مراكز الإيواء المطلوبة، خصوصاً للنازحين من الشمال الذين ينوون العودة إلى ركام منازلهم.
وكي لا تقفل حماس النقاش، أبلغت الوسطاء بأنها معنية بالتأكيد بتبادل للأسرى، وهذا أساساً الهدف الرئيسي لعملية طوفان الأقصى. لكن هذا الملف لم يعد يتقدّم على ما سبق لناحية وقف العدوان والشروع في إزالة آثاره، والجميع يعرف أن العدو يريد أن يحصل على أسراه من المدنيين فقط، قبل أن يعود مجدداً للحرب، وأن وزير الحرب يوآف غالانت صارح أهالي الجنود من الأسرى بأن وضعهم لا يختلف عن وضع الجنود الذين يقاتلون في الجبهة الآن.
وكان لافتاً في موقف حماس أنه، ربطاً بمعرفة الجميع بأهمية ورقة الأسرى، وبما أن العدو يريد من الهدنة تحقيق هذا الهدف، وأن أميركا وآخرين يريدون من الهدنة تظهير الصورة الإنسانية، فإن البند الخاص بالتفاوض لم يعد في مقدّمة البحث. وطالبت الوسطاء بالعودة إلى ورقة باريس الأولى التي تحدد العملية بثلاث مراحل تقود عملياً إلى إنهاء الحرب من خلال تهدئة مستدامة تلي هدنة تمتد لنحو 135 يوماً. وهو ما تراجعت عنه أطراف باريس الأربعة تحت ضغط أميركي، وتلبية لمطالب إسرائيل التي اعتبرت أن الورقة الأولى هي لمصلحة حماس، وأنها لن تنهي عمليتها العسكرية، وتريد الدخول إلى منطقة رفح.
حماس تبطل تعديلات ورقة باريس: تبادل الأسرى بعد إقرار وقف الحرب
وعند البحث في ملف الأسرى بصورة تفصيلية، قالت حماس صراحة إنها لن تقبل بأقل من 300 أسير فلسطيني مقابل كل جندي من الأسرى، و100 معتقل مقابل كل أسير في الاحتياط، وإنها تقبل ببقاء المعادلة السابقة الخاصة بالمدنيين لجهة ثلاثة معتقلين مقابل كل مدني، شرط أن يكون هؤلاء من كبار السن أو المرضى. لكن ما أثار حفيظة الوسطاء هو أن حماس قالت بوضوح، إن هدف إنهاء الحرب مركزي وأساسي، وبالتالي، يجب أن يصدر التزام واضح وعلني بوقف الحرب، على أن تتم عملية التبادل بعد هذا التاريخ بعشرة أيام.
بيرنز: الانتقال إلى الخطة B
على أن المهام التي كان مدير المخابرات المركزية الأميركية يعمل عليها في سياق البحث عن «حل إبداعي»، كانت تركز على ما هو أبعد من الهدنة. ويقول مطّلعون إن الأميركيين يعتبرون ضمناً أن الحرب فشلت في تحقيق أهدافها الفعلية، وأن مواصلة القتال لن تفيد في شيء نوعي، بل ستكون لها انعكاسات قاسية ربطاً بتقييم أقر به ضباط كبار في الجيش الأميركي أمام نظراء لهم من العالم العربي، بأن جيش الاحتلال أظهر «نقصاً فادحاً في المهنية والاحتراف، وأن جيشاً يلجأ إلى هذا القدر من القتل العشوائي لا يعبّر عن قوة وحرفية».
وعليه، فإن البحث الذي أطلقه بيرنز بالتعاون مع جهات عربية وإقليمية، وبالتشاور مع إسرائيل، يركّز على فكرة الحل المستدام. وتقوم فكرة المسؤول الأميركي على الوصول إلى حل أوسع من القطاع، يشمل ما هو مطلوب من تغيير حتى في الضفة الغربية، بما يفتح الباب أمام إعادة إدراج مسألة مستقبل
الملف الفلسطيني ضمن رؤية جديدة. ووفق ما تم تداوله، وما وصل إلى جهات رفيعة في عواصم عربية وإقليمية، فإن مقترح بيرنز الجديد يقوم على الآتي:
إن معالجة مشكلة الأمن التي تريدها إسرائيل، ومشكلة الاحتلال التي يطالب الفلسطينيون بحلها، يمكن أن تكون من خلال تشكيل قوة عسكرية وأمنية من دول عربية وإسلامية مقبولة من جميع الأطراف، تتولى إدارة الساحة الفلسطينية مع تركيز على قطاع غزة. وأُشير بالاسم إلى مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر وتركيا لتشكيل هذه القوة، بالتنسيق مع الأميركيين والإسرائيليين، على أن تكون لديها مهام واضحة. لكنّ النقاش أظهر أن الجانب الأميركي لا يحدّد مهلة زمنية لعمل هذه القوات، بل يريد منها:
أولاً، الحلول مكان قوات الاحتلال الإسرائيلي، والشروع في إنشاء سلطة مدنية تتكل على هذه القوة لإدارة شؤون القطاع المدنية وملف المساعدات وإعادة البناء.
ثانياً، الإشراف على إنهاء عمل جميع الأذرع العسكرية للقوى الفلسطينية في القطاع، وتدمير البنى التحتية (الأنفاق) وضمان عدم ترميم قوى المقاومة لقدراتها من جديد.
ثالثاً، بعد استتباب الأمن وإطلاق عملية الإعمار وإعادة النازحين، يصار إلى ترتيب موعد لإجراء انتخابات عامة في كل المناطق الفلسطينية تنتج عنها سلطة وحكومة.
بيرنز الذي اعتبر أن فكرته تشكل خرقاً هائلاً في جدار يمنع معالجة الملف الفلسطيني، طلب أن يعطى ورقة قوية لإقناع إسرائيل بها بصورة تامة. ولدى سؤاله قال صراحة: «أريد تعهداً علنياً من حماس وبقية قوى المقاومة بهدنة تامة وشاملة لمدة عشر سنوات، على أن تضمن الآلية التزام المقاومين بالهدنة».
وفيما رفضت قوى المقاومة، وخصوصاً حركة حماس التعليق على هذا الأمر، تبين أن المحادثات التي جرت مع الأطراف المعنية، أثمرت أجوبة لافتة:
- حماسة أردنية - إماراتية مع استعداد لتقديم الدعم العسكري واللوجستي لأي شرطة محلية تتولى مساعدة القوة العسكرية في إدارة الوضع.
- نأي بالنفس من جانب قطر وتركيا مع إجابة مشتركة بأن مثل هذه الخطوة تحتاج إلى طلب فلسطيني صادر عن قرار فلسطيني موحّد، وأنه من الافضل ترك الوصول إلى هذا القرار للفلسطينيين.
- تحفّظ مصري ربطاً بخشية علنية من «التورط» في وحول غزة، والإشارة إلى أصحاب الفكرة بأن من يفكر بالإمساك بقطاع غزة من خلال هذا الحل، يتجاهل كل التجارب السابقة ولا يعرف واقع القطاع وأهله.
- استعداد سعودي مشروط بالحصول على مقابل يشمل الملف الفلسطيني وأموراً أخرى تخص العلاقات السعودية - الأميركية.
لن يخرج أحد لينعى المفاوضات بصورة تامة. لكن كل الحراك القائم حتى اللحظة، لا يعكس تبدلاً جوهرياً يتيح الحديث عن فرصة لاتفاق، علماً أن المقاومة التي أعادت تنظيم أمورها في القطاع، وباشرت خطوات تنسيقية لتظهير قوة مدنية تتولى أمر المساعدات، لا ترى نفسها مضطرة تحت أي ظرف للقبول باتفاق يمنح العدو استراحة قبل العودة إلى ارتكاب الجريمة.