دول » دول مجلس التعاون

الحجّ إلى اليابان

في 2024/06/13

(فؤاد السحيباني \ راصد الخليج)

يجزمُ أيّ متحصّل على قدرٍ ضئيلٍ من دراسات التاريخ أن الحكّام الأكثر قسوةً والأقوى قبضة، ممن لم يثبت عنهم إلا الوحشية والميل إلى العنف، كانوا في الباطن ضعفاءَ جدًا، وخائفين جدًا جدًا، فأيّ طرحٍ لفكرة خارج صندوق محفوظات الحاكم وعقله، هي جريمة يستحقّ صاحبها أشدّ العقاب. هذه هي صورة موقف المملكة اليوم من قضية فلسطين. الإعلام التابع لولي العهد يعدّها قضية سياسية تتقبّل الحياد أو التخلّي أو التجاوز، بكل بساطة.

 في الأصل والمبدأ؛ فإن فلسطين هي قضيةُ دين وشرف وإنسانية، هذا الدم الذي يراق في غزّة يخصّنا، ونحن مسؤولون عنه أمام الله، وحتى دعوات البراءة من الظالمين ومن أعوانهم تقع بالتأكيد على عاتق شعوب عربية عديدة تحيط بفلسطين، وقد أبت نجدتَها أو إغاثتها، والصهيوني لا يقتل الفلسطيني لإنه فلسطيني، بل لأنه عربي ومسلم يقف في طريق تحقيق حلم "إسرائيل الكبرى"، وما ينطبق على الفلسطيني اليوم سينطبق على غيره غدًا، ونصرة فلسطين ليست خيارًا وإنما فريضة، وتاركها ليس مذنبًا فحسب، وإنما خائن لله ولدينه ورسوله.

 تقف المملكة اليوم على أعتاب موسم الحجّ السنوي، الفريضة الإسلامية الأهم والأكبر من حيث العدد، وهي في مفترق طرق، بالنسبة للعالم الإسلامي –وحتى للعالم كله- تبدو غزة هي قضية الساعة بامتياز، من عواصم عربية إلى جامعات أميركية وميادين أوروبية، حتى اليابان البعيدة جدًا فاجأتنا بإعلان سلطات مدينة ناغازاكي رفض حضور سفير دولة الاحتلال لديها لمراسم حفل السلام الذي تقيمه سنويًا في 9 آب/ أغسطس، تكريمًا لضحايا القنبلة النووية الأميركية عام 1945، بل وذهبت المدينة إلى تبديل الدعوة برسالة إلى سفارة العدو تطالبه بوقف فوري لإطلاق النار في غزة.

أما في المملكة، وعبر إعلان رسمي صادر من وزير الحج توفيق الربيعة، فإنه يُمنع على الحجّاج من كل دول العالم رفع شعاراتٍ سياسية في المشاعر المقدّسة أو قرب الكعبة المشرّفة، وقال الوزير في بيان متلفز: "إن الحج للعبادة فقط، وليس للشعارات السياسية".. إذًا فقد حُسم الأمر واختار نظام الحكم السعودي رهانه، لم يسقط في اختبار الدين فحسب، بل رسب في اختبار الإنسانية والشرف والمروءة، مَن الذي يدّعي أنّ غزة مجرّد موقف سياسي أو طرف في صراع لا يعني المسلمين؟!

 المفهوم أولًا أنّ النظام السعودي بقيادة محمد بن سلمان لا يريد سماع قصّة فلسطين من الأصل، لا يرغب في سماع أيّ شيء آخر لا يُعدّ من ضمن لوائح اهتماماته. الترفيه ثم الترفيه ثم الترفيه، هو كل المعروض أمام المواطن في المملكة، يختار منه ما يشاء ويرفض منه ما يشاء، أما بعد ذلك، فليس باقيًا أمامه سوى الانسحاق للتسبيح بحمد ولي العهد آناء الليل وأطراف النهار، وإلا، فالمعتقلات جاهزة والسيوف مُسلّطة، وما من أحد عند هذا النظام بعزيز، والجميع رأى ما حدث لكبار أمراء الأسرة الحاكمة حين فكّروا في المماطلة.

 غزّة كما هي دافع ووقود لموقف إسلامي واسع وواضح وحاد، مع توالي المجازر البشعة التي تفوق حدّ التصوّر، من رفح إلى النصيرات، فإنها في الوقت ذاته تفضح رهان ولي العهد على كيان الاحتلال والولايات المتحدة كضمانة لتثبيت قوائم عرشه وحكمه ومستقبله. التضامن مع غزة –تلقائيًا- يهزم خيار محمد بن سلمان في الذهاب إلى العصر الصهيو-أميركي، ويفضح بؤس هذا الخيار وضبابيته وفراغه التام، فهل الولايات المتحدة التي فشلت في البحر الأحمر ثم فشلت أمام ثلّةٍ مقاومةٍ في غزة، هي غير الولايات المتحدة التي يطمع الأمير –عبر عملية تطبيع كاملة مع العدو- في أن تتحمّل مسؤوليات الحماية العسكرية للمملكة وتبعات الأمن الشخصي لولي العهد؟!

لعلّ الأيام والليالي القريبة القادمة تحمل إجابات صاعقة على رؤوس الجميع. يرى المستبد الغبي أن كل فكرة جديدة تحتمل كشف ضعفه وهشاشته وخواء نظامه، فهو لا يرفضها وإنما يحاربها، هذا المستبد لا يريد حوله سوى منافقين زاعقين بأصوات جهورية، إنه لا يريد غيرهم، ويريدهم في كل لحظة، فوجود المنافق "المطبّل" لا يمنح الحاكم فرصة الإمساك بعقل الشارع فحسب، لكنه في الأساس وُجد لكي يمنح هذا الحاكم المهتزّ الثقة، ليتحوّل النفاق من عرض لمجتمع مريض إلى أصل وأساس الحكم واستمراره.

 في فيلم مصري شهير، أبدع الأستاذ فؤاد المهندس في أداء شخصية مساعد السلطان، كلما ذكر اسم مارينجوس الأول سلطان بروينجا العظمى، ثار الدم في عروقه وانتفض واقفًا مهلّلًا بجملته الشهيرة "طويل العمر يطوّل عمره يزهزه عصره وينصره على مين يعاديه هاي هئ"، هذا التصرّف كان يمنح السلطان الثقة بنفسه كحاكم، وبمن حوله، وربّما أيضًا يبرّر لنفسه تصرفاته الجنونية، وأداء المهندس لهذا الدور علامةٌ فارقة لم يحقّقها أيّ مشهد أو مؤدٍّ غيره بالكفاءة نفسها وبروحه واستحضاره للمطلوب بدقّة وبساطة شديدة.