عامر ذياب التميمي- الخليج الجديد-
هل يمكن لدول الخليج أن تتبنى سياسات تقشف مالي خلال السنوات المقبلة لمواجهة تراجع إيراداتها النفطية؟ يبدو أن هذا السؤال أصبح محورياً لدى صناع السياسات في هذه المنطقة، فبعد ما يزيد عن سبعة عقود من أنظمة الرفاهية وفلسفة الريع، يبدو أن الأمور باتت تتطلب مواجهات جادة. وبناء على تقويمات من المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، والعديد من الخبراء الاقتصاديين المحليين والأجانب، لم يعد بإمكان حكومات بلدان المنطقة أن تراهن على معاودة أسعار النفط الارتفاع قريباً، فهذه الحكومات لا تملك اتجاهات هذه الأسعار في سوق نفطية تتحكم فيها عوامل العرض والطلب.
عملت بلدان المنطقة على التوسع في الأعباء الاجتماعية وزيادة مخصصات الدعم بمختلف أشكاله وتحمل تشغيل المواطنين في الدوائر الحكومية ومؤسسات القطاع العام في بلدانها. وربما تختلف أشكال السياسات المالية وآلياتها بين بلد خليجي وآخر، لكن لا جدال في أن دور الدولة طاغ في كل هذه البلدان. وأهم من ذلك أن هذه البلدان وخلال السنوات الـ 70 الماضية لم تعمل على تنويع القاعدة الاقتصادية بما يخفف من انكشافها على أسواق النفط. وهي رصدت أموالاً مهمة للصناديق السيادية التي استثمرت أموالها في أصول جيدة، خصوصاً في البلدان الصناعية المتقدمة، بيد أن الاقتصادات المحلية ظلت تعمل تحت مظلة الإنفاق الحكومي، الجاري والرأسمالي، المعتمد على إيرادات النفط. وساهمت زيادة تلك الإيرادات منذ الصدمة النفطية الأولى عام 1974 في تصاعد دور الدولة وزيادة النفقات ذات الطابع الاجتماعي فأصبحت غالبية المواطنين تعتمد على الدولة للحصول على حياة مناسبة ومعيشة كريمة.
وبالإضافة إلى التشغيل، تتحمل حكومات دول الخليج أعباء الدعم المخصص للخدمات العلاجية في المستشفيات الحكومية وأسعار الكهرباء والمياه والوقود والمواد الغذائية والمواد الإنشائية، ناهيك بالمساكن المدعومة ببرامج حكومية سخية. ويُعتبَر التعليم مجانياً في مختلف مراحله في المدارس والمعاهد والجامعات الحكومية. ولا تفرض هذه الحكومات ضرائب على المداخيل الخاصة، وما من ضرائب مهمة على مداخيل الشركات والمؤسسات العاملة في مختلف القطاعات الاقتصادية. وتعتمد بلدان المنطقة على يد عاملة وافدة لتشغيل مختلف الأعمال والنشاطات، خصوصاً مؤسسات القطاع الخاص في الصناعات التحويلية والزراعية والخدمية، ناهيك بالقطاعات الحكومية كالقطاع النفطي، ما يعني أن الخدمات الحكومية تتحمل أعباء الوافدين بالإضافة إلى المواطنين.
كيف يمكن التعامل مع هذه الأعباء في ظل تراجع الإيرادات، وهل يمكن لبلدان المنطقة أن تجري تعديلات هيكلية على السياسات المتبعة وتواجه معارضة محتملة من فئات واسعة من المواطنين؟ ثم كيف ستُطبَّق هذه السياسات البديلة خلال الشهور والسنوات المقبلة؟ فمن أين ستبدأ سياسات التقشف، أو على الأقل الترشيد؟ هل ستبدأ بتقليص مخصصات الدعم؟ وما هو الدعم الذي يجب البدء به؟
ثمة توصيات بأن تكون المعالجات متدرجة، أي عدم اتباع سياسات الصدمة التي لا تكون مقبولة اجتماعياً وسياسياً. ويرى اقتصاديون وجوب توجيه الدعم إلى الفئات ذات المداخيل المحدودة أو دون المتوسطة وتجنب توجيهه إلى فئة الأثرياء من خلال تحديد شرائح للاستهلاك ورفع التكاليف على المستهلكين الذين تتجاوز معدلات استهلاكهم مستويات تقررها الجهات المختصة.
أوضحت المديرة التنفيذية لصندوق النقد «كريستين لاغارد» أخيراً أن الانخفاض في أسعار النفط منذ منتصف 2014 أدى إلى خفض الإيرادات النفطية لبلدان الخليج بقيمة 275 بليون دولار. وقدرت أن يسجل العجز الإجمالي لموازنات بلدان المنطقة نحو 12.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لهذه البلدان. وطالبت بلدان المنطقة بتبني سياسات إصلاح تتمثل برفع أسعار المحروقات والكهرباء والمياه، وتعديل سياسات التشغيل وربما التفكير جدياً بتشريع أنظمة ضريبية متنوعة لزيادة الإيرادات غير النفطية. وأوضحت أهمية تحويل العديد من النشاطات من القطاع العام إلى القطاع الخاص من خلال برامج تخصيص جادة.
لكن هل يمكن الأخذ بهذه النصائح التي سبق أن طُرِحت على المسؤولين في دول الخليج وفي مراحل متعددة من تاريخها الاقتصادي المعاصر؟ إن عدم تطبيق هذه الإصلاحات، وفق لاغارد المتنبهة إلى التداعيات الاجتماعية المحتملة، سيؤدي إلى ارتفاع مستوى العجز في الموازنات الحكومية، خصوصاً أن أسعار النفط تراجعت بين 50 و60% عن مستوياتها قبل سنة ونصف سنة. وذلك يعني أن العمل لإنجاز هذه الإصلاحات بات ضرورياً لتتمكن بلدان الخليج من تفادي حالات عجز صعبة في موازناتها التي ارتفعت على مدى السنوات الـ 10 الماضية في شكل متسارع (بين 8 و10% سنوياً) بما رفع مخصصات الإنفاق العام في شكل فلكي.
ربما يصعب تقبل التقشف لدى الشعوب في بلدان الخليج، لكن سياسات مالية عقلانية ممكنة التطبيق، ومنها خفض مخصصات الدعم والترشيد بما يرفع أسعار الخدمات إلى مستويات اقتصادية مقبولة تضاهي التكاليف على أقل تقدير. ويمكن أيضاً اعتماد ضرائب، مثل الضريبة على القيمة المضافة على السلع والخدمات، وضريبة الأرباح الرأسمالية على أرباح تبادل الأصول، وضرائب على الأصول المستغلة اقتصادياً مثل الأراضي غير المطورة، وضرائب دخل على الشركات والمؤسسات الاقتصادية في شكل لا يعطل حفز النشاط الاقتصادي الخاص.
وسيطالب كثر بارتقاء الحكومات بالخدمات التعليمية والصحية والمرافق والبنية التحتية مقابل الرسوم أو الضرائب الجديدة أو تعديل سياسات الدعم، وهذه مطالب مشروعة يجب تحقيقها، إلى جانب تحسين أداء البيروقراطية والقضاء على الفساد الإداري في الأجهزة الحكومية. ويمكن تحويل ملكية العديد من الخدمات الحكومية وإدارتها إلى القطاع الخاص الذي قد يحسّن أداءها ويرتقي بجودتها. عندئذ يمكن للحكومات أن تتحرر من تشغيل كثر من المواطنين ويصبح الأمر معهوداً إلى القطاع الخاص الذي يجب أن يلتزم بتشغيل المواطنين قبل استيراد العمال من الخارج.