إيمان القويفلي- الخليج الجديد-
يغلب في الدول العربية أن تكون الوظيفة الأساسية للجهاز الإعلامي الحكومي هي الحجب، بكلّ مستوياته، ويكون من قبيل إساءة الفهم والتقدير تناول هذا الحجب باعتباره إخلالاً بقواعد العمل الإعلامي، أو ضيق أفقٍ عارض عند رقيبٍ صغير أو اجتهاداً معيباً، لأن هذا "المعيب" بالذات هو الهدف الأسمى الذي من أجله تُنشأ الوزارات والهيئات العليا للإعلام.
العَتَب على الهيئات الإعلامية الحكومية عندما تحجب وتحظر من منطلق أنها "راعية للإعلام" و"مصدرٌ للمعلومة" هو من قبيل مراوغة تلك الحقيقة، ليس إلا.
الحجب هنا أبعد من صيغه الفجّة والمباشرة. أبعد من حجب موقع إلكتروني، أو حظر دور نشر معيّنة، أو منع رسّام كاريكاتير من النشر أو كاتبٍ من الكتابة، وأبعد من تمدّد الأذرع القانونية للسيطرة على أكثر مساحات التعبير اختزالاً، مثل "تويتر"، أو أكثرها شعبوية، "واتس آب" مثلاً.
الحجب الإعلامي، بمعناه الأبعد، هو تحوّل المؤسسة الإعلامية الرسمية المتضخّمة، بقنواتها العشرة، وصحفها العشرين، ومواقعها التي لا تُحصى، ومطبوعاتها وإذاعاتها ومنصّاتها الإلكترونية، إلى بثّ بغرض الحجب، بدلاً عن كونه بثاً بغرض الإعلام، بمعنى أن يصبح الهدف المضمر للسيّال الإعلامي الهادر استحواذ الخطاب الرسميّ على الفضاء الإعلامي، إفراغه من فُرص وجود الخطابات المنافسة، وشغل كل بقعة محلية وشبه محلية، قبل أن يشغلها صوتٌ آخر بخطابٍ إعلاميّ مختلف.
لا يختلف الإعلام عربياً، في جوهر أدائه، بحسب التقسيم التقليدي إلى رسميّ وتجاريّ، فهدف الجهاز الإعلامي في الدولة العربية يقتضي أن لا مجال لترك القطاع مفتوحاً على مصراعيه أمام الطامحين، على أنواعهم، المستثمرين والشباب والمبادرين والصحافيين المحترفين، كما قد يحدث في مجالٍ إعلاميّ طبيعي، يموج بالاقتراحات الإعلامية، المتجددة شكلاً وموضوعاً، في الدولة العربية يحتاج المشروع الإعلامي إلى رخصة سياسية.
المشاريع الصغيرة تنال رخصتها عبر الخضوع للرقابة، والتّبني الطوعي للخطاب الرسمي.
وكلما صار المشروع أضخم وأوسع تأثيراً وأكثر قدرة على منافسة إعلام الحكومة، صارت اشتراطات الرخصة السياسية أضخم، حتى تصل، في حالات تدشين الصحف والقنوات التلفزيونية، إلى شرطٍ لا يستطيع تلبيته إلا بضعة أشخاص في كل دولة، وهو أن يكون صاحب المشروع شخصياً جزءاً من النخبة السياسية-الاقتصادية، خطابهُ خطابها ومصالحهُ مصالحها، ومشروعه الإعلامي امتدادٌ مُبهرج للإعلام الرسمي.
إجمالاً، لا يمكن لمشروع إعلاميّ، مهما صَغُر، أن يوجد في هذه الظروف ويعيش ويستمرّ، إلا إذا كان متّسقاً مع الخطاب الرسمي، يمثل أحد أجنحته، ويستقي منه، ولا يختلف معه إلا خلافاً صورياً في تفاصيل فنية، يضخّمها الصحافيون، لتبدو خلافاتٍ حقيقية، تُخفي وراءها توافقهم الجَبريّ على المضمون.
فيسخر مُقدّم البرامج في المؤسسة التجارية من جمود القناة الرسمية، ويقود صحافيّ الموقع الإلكتروني ثورةً على أداء صحافيي الصحف الورقية، وينتقد المراسل التلفزيوني رتابة وكالة الأنباء الرسمية، بينما يبثّ جميعهم في النهاية، الخطاب السياسيّ والاجتماعي نفسه، وبعناوين متشابهة.
المشهد الإعلامي "الطبيعي"، منذ انطلاق البث الفضائي، ينبني على ثنائيةٍ وهمية، من الإعلام الرسمي والتجاري، لكنهما يتضافران معاً لتكوين هذه الحالة الغريبة، حيث تبلغ المؤسسات الإعلامية من الضخامة ما يسدّ الأفق، ويملأ ما بين المشرق والمغرب.
لكن المواطن العربي يظلّ عاجزاً عن الوصول إلى الخَبَر، إلى مصادر معقولة ومُقنعة للخبر الذي يهمّه، والتحليلات التي تمسّ حياته ومصلحته. نشرة الأخبار الرسمية التي لا تخاطبهُ أساساً تقذفه ليبحث عن الأخبار في الأقنية التجارية، نشرة الأخبار الخفيفة والسريعة في القناة التجارية تقدّم موجزاً للأخبار الوطنية، مُستقاة من ثرثرة المجالس ورجيع "واتس آب" والوسوم الأشد حماقة على "تويتر".
يبحث في "تويتر" عن أخبارٍ محلّية ذات معنى، فيلفّه الجو الغريب والمناخ المصطنع هناك، ثم يقوده رابط إلى موقعٍ إخباريّ إلكتروني رقيع، متخصص في إنتاج نمطٍ محلّي من صحافة الفضائح وأخبار الجريمة وتعزيز مختلف أنساق التعنصر والتمييز وضيق الأفق، ويفتح الإذاعة، فيستمع إلى حوار مع مُفسّر أحلام. و
يبحث في الصحيفة، فتصدمه الصيغة اللامعقولة للأخبار. هذا موجز لما يمكن أن يعنيه أن يكون المواطن مُحاطاً طوال الوقت بوسائل الإعلام، لكنه يفتقر إلى المعلومة، وكيف تشتغل وسائل إعلامٍ من هذا النمط على صنع سديم سحابيّ من الأخيلة والانحيازات والضلالات التي تفصل بين المواطن والواقع الذي يعيش فيه فعلاً.
الحالة الوحيدة التي تثير شعوراً من الانزعاج داخل الإمبراطورية الإعلامية الحاجبة من مستوى البروباغاندا الشاملة فيها، تكون عندما تعجز هذه الإمبراطورية على ضخامتها عن تصدير خطابٍ متماسك إلى الخارج عن موقف الدولة في أزمة سياسية ما. تكتشف الإمبراطورية، وقتها، المشكلة الأساسية في أدائها، وهي أنها صُنعت لتستحوذ، لا لتُقنع، ولا لتُعلِم. لكن، سرعان ما يذوب الانزعاج ويذهب بعيداً، ففي النهاية، من يقول إن المواطنين في حاجة إلى إقناع؟