عاد شبح 11 / 9 ليضرب مجددا العلاقات التاريخية بين المملكة والولايات المتحدة بعد أن تعرضت في السنوات الأخيرة لانتكاسات متتالية لا يتسع المجال لذكرها أو لأسبابها، حيث أقرت الولايات المتحدة الأمريكية قبل نحو أسبوعين وبالتزامن مع الذكرى الخامسة عشرة لهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، قانونا خطيرا تمت حياكته خصيصا على مقاس المملكة حيث وافق الكونجرس الأمريكي بمجلسيه (الشيوخ والنواب) وبأغلبية ساحقة على قانون (مُسيّس) بدرجة مكشوفة ومن شأن تنفيذه الإضرار ببلادنا، التشريع الذي أطلق عليه اسم قانون العدالة ضد الإرهاب، ويعرف اختصارا بإسم (جاستا)، يسمح لعائلات ضحايا تلك الأحداث الأليمة بمقاضاة المملكة وكبار مسؤوليها، أمام المحاكم المدنية الأمريكية للحصول على تعويضات عن الوفيات أو الإصابات.
والأكيد هو أن إقرار هذا القانون الخطير لم يكن مفاجئاً بالنسبة للكثير من مراقبي المتغيرات السياسة في واشنطن التي لم يعد خافيا غضها الطرف عن انتهاكات إيران (المصنفة أمريكيا باعتبارها دولة راعية للإرهاب) وتأسيسها لمنظمات إرهابية يتقدمها (حزب الله)، وتمويلها للعديد من الحركات (الجهادية) المتطرفة، ودعمها المُثبت للقاعدة، إضافة لسجلها الأسود في حقوق الإنسان وقمع المعارضين السياسيين، مع استمرار التأييد الأمريكي الأعمى لإسرائيل رغم ممارساتها الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، ومما يؤكد النية المبيتة لإصدار القانون، إصرار بعض دوائر صنع القرار الأمريكية طوال السنوات التي تلت هجمات سبتمبر على إخفاء محتويات 28 صفحة من تحقيقات الحادثة؛ بحجج واهية أهمها زعم احتوائها على أدلة إدانة للمملكة!، واحتمالية تسببها في إحراجنا في المحافل الدولية، وتأزيم العلاقات بين البلدين! اللذين نجحا في الحفاظ عليها جيدة لحد كبير طوال عقود.
ويبدو واضحا الآن بعد أن تم أخيرا الكشف عن المحتوى القانوني (الهزيل) لتلك الصفحات أن هناك أصابع خفية في واشنطن، وربما خارجها، كانت وراء المحاولات المستمرة الهادفة لإلصاق مسؤولية الهجمات بالمملكة؛ ربما تمهيدا لوضع اليد على الأصول المالية السعودية في الولايات المتحدة؛ أو جزء منها على الأقل، وإضعاف مواقف المملكة السياسية ودورها المحوري المؤثر في الأحداث الجارية في المنطقة عموما، وعلى حدها الجنوبي على وجه الخصوص، حدث ذلك على الرغم من انتفاء أية أدلة ثبوتية على ضلوع حكومة المملكة في تلك الهجمات.
ولعل ما يدعو للأسف حقا هو عدم قيام بعض أجهزتنا المعنية بهذا الملف، بالجهود الدبلوماسية والقانونية الكافية داخل الساحة الأمريكية طوال السنوات الماضية، لتأكيد براءة المملكة من تلك الاتهامات، وتقديم براهين نفينا القوية للوسائل الإعلامية المعتدلة، وشرح وجهات نظرنا بشأنها للرأي العام الأمريكي، وبما يكفل عرقلة محاولات الكونجرس - ومَنْ وراءه - لإقرار القانون، وفي مقدمة جهاتنا المعنية كل من وزارة الخارجية ووزارة الإعلام.
على ضوء ما تقدم فإنه يتعين على وزارة الخارجية الآن المبادرة إلى إدارة تحرك دبلوماسي واسع ومؤثر في أروقة الإدارة الأمريكية وكواليسها؛ عبر سفارتنا في واشنطن وممثلياتنا المختلفة هناك، وتتواصل من خلاله مع المشرعين الأمريكيين، كما أن بإمكانها البدء في عقد ندوات ومؤتمرات لمناصرة وجهات النظر السعودية بحضور شخصيات مؤثرة وفاعلة من البلدين؛ خصوصا من المتخصصين في العلوم السياسية من أساتذة جامعاتنا وقادة الرأي من مثقفينا ممن يجيدون فهم الذهنية الأمريكية.
أما المطلوب من وزارة الإعلام فهو إطلاق حملات وبرامج اتصال احترافية في الولايات المتحدة، بالاستعانة بكبريات شركات العلاقات العامة الأمريكية، للتأثير في المؤثرين هناك من أصحاب القرار وصناع الرأي وجماعات الضغط والمفكرين وكبار الإعلاميين، وربما مساعدة كبار الكتاب السعوديين على نشر آرائهم المؤيدة للمملكة في الإعلام الأمريكي.
وبصرف النظر عن الدوافع (الخفيّة) لتمرير تشريع أرعن كهذا سيضر كثيرا بالعلاقات التاريخية بين البلدين التي أصبحت على المحك الآن وربما لن يدرك المشرّعون الأمريكيون خطورة قانونهم الانتقائي إلا عندما تقوم الدول المتضررة من التدخلات الأمريكية، بسن قوانين مماثلة لقانون جاستا، يتم توظيفه لمقاضاة الولايات المتحدة وكبار مسؤوليها السابقين والحاليين، بالنظر لتورطها في قائمة طويلة من الأحداث الدامية التي أودت بحياة عشرات آلاف الأرواح البريئة، وزعزعت أمن واستقرار واقتصاد عشرات الدول حول العالم. إلا أن ما يعنينا في المملكة من قانون جاستا هو مخاطره التي يمكن أن تترتب على بلادنا في حال تطبيقه، وذلك في حالة إخفاق الرئيس الأمريكي في إستخدام حق النقض المقرر أن يتقدم به الرئيس يوم أمس الجمعة بسبب قيام عدد كاف من أعضاء المجلسين، بالتصويت على إلغاء ذلك الحق.
ونظرا لحساسية القانون الأمريكي الجديد بالنسبة لنا، وكونه أداة لابتزاز المملكة والإساءة لسمعتها، فإن المطلوب منا الآن - كسعوديين - هو السعي بكل الوسائل الممكنة؛ وعلى الصعيدين الرسمي والشعبي للوصول إلى صناع القرار في واشنطن وكذلك للرأي العام الأمريكي - إن أمكن - من أجل إقناعهم بسلامة موقف المملكة، وبراءتها من التهمة الباطلة، ودورها المهم في التصدي للإرهاب، والتأكيد على هشاشة القرائن التي استند إليها المشرعون هناك لإصدار القانون، وأنها مجرد «أدلة ظرفية» (circumstantial evidence) لا ينبغي أن يُعتد بها لإدانة المملكة التي تتعرض لموجات متتالية من الإرهاب بشتى أشكاله ودوافعه وداعميه، إلا أن كل ذلك لم يمنعها من أن تكون ثالث دول العالم في تقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية والتنموية، كما تقود تحالفا عربيا لدعم الشرعية في بلد شقيق هو اليمن تلبية لطلب رئيسها الشرعي.
ختاما فإنني أعتقد أن الوسيلة الأكثر ملاءمة لنا كأفراد لإيصال مثل هذه الرسائل المهمة هو مخاطبة الكونجرس الأمريكي والبيت الأبيض ووزارة الخارجية مباشرة على عناوينهم الإلكترونية وهي (www.congress.gov) و(www.whitehouse.gov) و (http://www.america.gov/ar) على التوالي، أو عبر حسابات التواصل الاجتماعي؛ لأن مثل هذا الجهد المطلوب يظل أقل كلفة بكثير من المخاطر المترتبة على قيام الكونجرس باتخاذ إجراءات تنفيذية لقانون جاستا، وهو ما يعني عمليا إمكانية استقطاع مبالغ باهظة من أصول المملكة في الولايات المتحدة لدفعها كتعويضات لعوائل أكثر من 3 آلاف ضحية من ضحايا هجمات سبتمبر من مختلف الجنسيات.
غسان بادكوك- عكاظ السعودية-