أميمة الخميس- الرياض السعودية-
بعد كل حادثة إرهاب طائفي، تصبح عملية الكتابة بالنسبة لي مأزقاً، فالأمر جلل ولا يمكن تجاوزه أو غض الطرف لنسلمه للوقت والنسيان، فهو يهبط ليطوقنا ويسد حولنا منافذ الهواء، وفي الوقت نفسه تخجل أحرفي من دماء الشهداء إذا ما بدأت أنبش في أدراجي للبحث عن كلمات تأبينية مستهلكة تقصر عن جلال رحيلهم المهيب. يذكر ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ، أنه في العصر العباسي عندما كانت الشيعة تبكي وتكابد فقد الحسين وتطالب بثاراته، كان السنة بدورهم (يسيسون أحزانهم) ويختارون جداراً ويبكون ويلطمون أسفله حزناً على عبدالله بن الزبير!!
ويذكر ابن كثير في كتابه النهاية والبداية أنه في القرن الرابع الهجري جرت فتنة بين الشيعة والسنة، بعد أن أحرق السنة قرآناً كان الشيعة ينسبونه لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه، أعقب ذلك فتنة طويلة، أريقت فيها الدماء وحرقت بيوت وأحياء بأكملها.
منذ صباح موقعة كربلاء والطابع السجالي هو الذي يحكم العلاقة بين الأطراف، والاستحواذ على مناطق النفوذ ورفع الرايات وتبادل الأدوار ما بين طرف يستحوذ على السلطان والشرعية وطرف آخر قد تجذر بنسيجه العقدي والثقافي شعور المظلومية والرثائية وكربلائيات الغائب.
وداخل تلك العلاقة الجدلية مابين ما هو عقائدي وسياسي تتسع تلك الساحة المروية بالدماء والثارات، بحيث يظهر كل طرف للآخر كعدو محتمل لابد من مهاجمته قبل أن يهاجمنا.
طوال هذه القرون مع الأسف كان هذا الملف بيد الساسة والوعاظ، وأولئك الذين يستثمرون المداخل العاطفية ويؤججون اللاعقلانية كمدخل للسيطرة على السفهاء والعامة وسوسهم، ومن هناك ظلت صفحات كتاب التاريخ ترشح بالدماء.
ملف الطائفية يندر أن يتداركه العقلاء المتيقنون من القصور البشري عن الكمال، والقادرون على فتح أفق التفكير والتحليل والتأمل في هذا الأخدود العميق. ليصبح زمن التنابز الطائفي زمناً سرمدياً لا يندمل، يعيد استيلاد نفسه مع مطلع كل قرن وكل مرة بشكل أكثر طغياناً وتوحشاً.
فكر التطرف في وقتنا الحاضر (لدى جميع الأطراف) فاعل ويمتلك لياقته وجاذبيته العالية المتحدرة عبر شعارات البطولة، المعارك، ودولة الخلافة، وبعيداً عن صحة هذه الخزعبلات أو كذبها فهي مابرحت فاعلة وجاذبة لم تفلس حتى الآن على الأقل، لأن هناك نهراً ما تحت أرضي يغذي هذا التوجه ويدعمه في وجدان جمعي يستمرئ حلمه القديم ويطرب له عندما يلامس شغافه (المنابر –المؤسسات التعليمية المتخمة بقصائد الجهاد والبطولات- حلم الخلافة المروج له في كل بقعة..) كثيرة هي المصبات التي تصب في هذا النهر الدموي.
وعملية التجفيف والتفكيك لم ولن تحدث بجرة قلم، بل ستأخذ في طريقها أجيالاً ودهوراً لصناعة حلم عصري على أنقاض حلم قديم ظلت الأمة تصنعه قصوراً في الهواء.
ومن ارتكب الجريمة الإرهابية الأخيرة في الحيدرية شاب نتوقع أنه نضج وقد أنهى المرحلة الجامعية، ومن المفترض أن يكون قد كوّن مناعته العقلية ضد التدجين القطيعي والاستغلال...لكن مع الأسف هذا لم يحدث.
الانتقال من مرحلة التبشير والدعوة والاستئثار بالحقيقة المطلقة، إلى مرحلة التعايش والتسامح وهو بالتأكيد ليس مهمة هينة لكنها أيضاً ليست بالمستحيلة.
وعندما أحرق البائع الجوال بو عزيزي نفسه اشتعلت ثورة تونس، ولكن عندما تذمر بائع اللوز هرعت الأحساء ونخيلها كلها لنجدته، وعندما أهين سائق الليموزين بطائفية بغيضة أصبح في قبضة الأمن بأقل من 24 ساعة وطننا محصن بالحب إن شاء الله وما رأيناه شمعة تتحدى الحندس.
الحاجة إلى قانون تجريم خطاب الكراهية، بات قضية تتعلق بالأمن القومي للمملكة، ينهض في وجه العنف الطائفي والتهديد والاستنزاف الأمني.
لسنا بحاجة إلى اختراع العجلة والبدء من الصفر فهو إجراء قامت به الكثير من الدول المجاورة، وأيضاً تحتمه طبيعة المدن التي غادرت شكل المجتمعات البدائية القائمة على العشائرية والمناطقية والمذهبية، وانخرطت في المشروع المدني القائم على التعددية الحاضن لجميع الأعراق والألوان والمعتقدات والخلفيات الثقافية. رحم الله شهداء الحيدرية وحمى الوطن من كل مكروه.