بينة الملحم- الرياض السعودية-
لا جديد في محاولة حادثة سيهات الإرهابية الأخيرة؛ ولعلّ الراصد في أبسط قراءة تحليلية لرد الفعل الجمعي أو قراءة مسحية سريعة للتغريدات والهاشتاقات التي أنشئت بعد الحدث -كأنموذج- في موقع التواصل الاجتماعي (تويتر) يدرك أن محاولات فتح جروح الثنائيات بنزع فتيل الطائفية لن تنجح طالما تم دحر محاولات محاربة مفهوم الوطن!
دول منطقة الخليج عموماً في تاريخها الزاخر بتعدد الطوائف والمذاهب المتعايشة بسلام تحت مظلة الوطن الواحد ومنذ أمدٍ بعيد لم تشهد كل هذه المحاولات في السنوات الأخيرة لتقويض ذلك التعايش المشترك أو محاولات ضرب الوحدة الوطنية بإحداث صدام بين مكونات المجتمع الواحد مع بعضها البعض بإيهام أن الوطن ليس للجميع!
لم يعد سراً من يقف خلف محاولات التوظيف السياسي لإشعال فتائل الطائفية ولا لمصلحة من ولا من المستهدف الحقيقي ولا أيضاً الهدف النهائي من كل هذا! سوى ربما من الواجب علينا التذكير كيف أن كل مصادر القلق الأهلي التي تعيشها دول: العراق، ولبنان، واليمن مع بزوغ الحوثية، كان مركزيتها الطائفية، وإذا قرأنا التاريخ السياسي للطائفية نجد أن الطوائف ذاتها تشكّلت بظروف سياسية، وأن الكثير من حالات الهيمنة العقائدية تبلورت في ظلّ إرادة سلطانية، أستشهد هنا بما فعله مؤسس الدولة الصفوية إسماعيل شاه الصفوي (ت:1524) وهو التركيّ والسنيّ الأصل وكان يلاحق أهل السنة للتخلي عن مذهبهم، واعتناق المذهب الشيعي. هذا نموذج واحد من عشرات النماذج التي يتداخل فيها المشروع السياسي بتغذية الطائفية. هكذا تفعل إيران، حيث تقوم بتأليب الطوائف المغلوبة على أمرها أيديولوجياً لمقاومة السلطات في بعض البلدان تحت مخدر الطائفية المذهبية!
من جانب آخر يأخذ الحديث عن أهمية مفاهيم الوطن والمواطنة بمعناها الدقيق كخط دفاع أول أمام أي محاولات لزعزعة استقرار الأوطان والمساس بوحدتها الداخلية من خلال تغذية النعرات القبلية أو الطائفية والمذهبية أو الاتجاهات والمواقف الفكرية داخلها.
فمفاهيم الوطن والمواطنة توفر مظلة كبيرة لمكونات الوطن كافة، التي قد تختلف في ما بينها من حيث الانتماء إلى قبيلة أو طائفة أو مذهب، فحقيقة الأمر أن شعور الجميع بأنهم مواطنون ينتمون إلى وطن واحد يفرض سمو رابطة المواطنة على الانتماءات الأخرى من دون إلغائها.
حسبنا عبرة ومثالاً في قراءة سريعة للمشهد العراقي، التي تقودنا إلى أن واقع التناحر والاحتراب الطائفي كان نتيجة مفادها التراجع الواضح في مفهوم الوطن والمواطنة وعدم تقديم درء المفسدة من زاوية كونه مظلة تسمو فوق الخلافات المذهبية والطائفية وتوحد الجميع في إطار كلي شامل لا ينفي الجزء وإنما يجبه.
لقد أفسح احتكار الوطن لمكون واحد في العراق إلى تراجع مفهوم المواطنة وتسلل وسيطرة النفوذ الإيراني فيه كما انعكست حال الفوضى الأمنية على تماسك الجبهة الداخلية، إذ لم يعد هناك تهديد أو خطر مشترك يجمعها، بل تعددت التهديدات وفقاً لمدركات وحسابات القوى الفاعلة على الساحة وفي هذا السياق، وجدت الجماعات والتنظيمات الإرهابية تربة خصبة لمزاولة أنشطتها في إطار حرب مفتوحة وبالوكالة لا صلة للعراق بها وللأسف يتكرر ذات المشهد بسيناريو مختلف في المشهد السوري.
وكانت المحصلة النهائية لكل هذه التطورات أن أضحت العراق ومن ثم سورية الساحة الرئيسة للحرب ضد «الإرهاب» استناداً للعرف الدولي، أو الحرب ضد «الكفار» استناداً إلى مفردات تنظيم القاعدة آنذاك وداعش وبقية الجماعات والتنظيمات التي تفرّخت عن الجماعة الأم وأضحت أدوات حرب استخباراتية في مسرحية سياسية هزلية ومكشوفة اليوم!
التاريخ ليس للحفظ والتوثيق والقراءة فقط؛ التاريخ عبرة أيضاً وهو الأهم! ما يحدث من حرب إلكترونية وخلف الشاشات الصغيرة عبر فتوحات التقنية والإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي هي حرب بسيطة التكاليف أي نعم صحيح، ولكنها باهظة الثمن في النتائج.
هذا الاحتراب الفكري الذي يجنّد الكلمة أو السلاح المعنوي من فئة أسلحة الدمار الشامل لتصنيف وإقصاء الطرف غير المتفق معه لا يقل خطورة عن واقع الطائفية أو المذهبية المسلحة بالسلاح المادي! فكلاهما: «يمارس لعبة شد الحبل على خط المجتمع والكل يحاول الانتصار لنفسه عبر التراجع والعودة للوراء لتحقيق الانتصار ويظل الخط الثقافي للمجتمع نقطة لا يعيرها أحد الاهتمام ولذلك تذهب المجتمعات واستقرارها ووحدتها ضحية شد الحبل لتحقيق التراجع»! فهل نتدارك ذلك.