عكاظ السعودية-
لا تزال قصة «رهام» وما تلاها من تطورات تدور في أذهان السعوديين، في وقت لا تخلو أخبار مجالسهم من حكايا «الأخطاء الطبية»، وإن كان بعضها «مبالغة» أو لا تتجاوز حدود «الاتهامات والمزاعم»، بيد أن حضور ملف الأخطاء الطبية في أحاديث المواطنين اليومية، تشي بملف ثقيل تحاول وزارة الصحة حلحلته وتقليل حوادثه. ويعزو قيادي سابق في وزارة الصحة -فضل عدم ذكر اسمه- ارتفاع نسبة الأخطاء الطبية في المستشفيات الحكومية والأهلية في البلاد، إلى ضعف التدريب والتأهيل للكوادر الطبية في المؤسسات الصحية، إضافة إلى النظام الصحي الحالي الذي وصفه بـ«الرخو».
ويرى في حديثه إلى «عكاظ» أن ثمة 3 عوامل متكاملة يجب مراعاتها لتفادي الأخطاء الطبية؛ تتمثل في الممارس الطبي والمنشأة والنظام الصحي، مشدداً على ضرورة تأهيل وتدريب الممارس الصحي بشكل كبير ومراقبة أدائه باستمرار «تدريبه يمثل جزءا كبيرا من الحد من الأخطاء الطبية».
ويؤكد على أهمية أن يكون في المنشآت الطبية، فريق متناغم في العمل ومؤهل بكامل الطاقم من أطباء وتمريض وتخدير ومساعدين، مضيفاً «ويجب أن يكونوا مهيئين بشكل كبير وأي خلل في التناغم العملي قد يحدث خطأ طبيا، وكذلك نوعية الأجهزة الطبية التي يستخدمها هذا الفريق يجب أن تكون من أفضل الأجهزة».
ولا يغفل القيادي السابق في وزارة الصحة النظام الصحي، إذ يشدد على وجوب عدم سماح الجهات الرقابية لأي ممارس بالعمل ما لم يكن يحمل ترخيصا لمزاولة المهنة، و«بالتالي سيكون مؤهلا بدرجة عالية للحصول على هذا التصريح»، مطالباً بتفعيل نظام إشرافي على العمليات الجراحية.
ويضيف «يجب أن لا تتم أي عملية إلا بوجود استشاري متخصص في مجال العملية يشرف على الفريق، وكذلك يجب أن لا تجري أي منشأة عمليات جراحية ما لم تكن بمواصفات معتمدة من الوزارة»، مؤكداً أن تفعيل كل هذه العوامل سوف يساعد على الحد من الأخطاء الطبية، «فليس من الطبيعي محاسبة طبيب على خطأ طبي لم يكن فريقه المساعد مؤهلاً، أو أن الأجهزة الطبية التي تستخدمها المنشأة ذات مواصفات معتمدة».
وعلمت «عكاظ» من مصادر مطلعة في وزارة الصحة -فضلت عدم ذكر اسمها- أن الهيئات الصحية الشرعية في الوزارة، أصدرت 4524 قراراً بشأن شكاوى لأخطاء طبية خلال الأعوام الخمسة الماضية (منذ عام 1433هـ حتى عام 1437هـ).
وأوضحت المصادر لـ«عكاظ» أنه تمت معالجتها عبر عدة إجراءات قامت بها الهيئة الصحية الشرعية، التي تعد محاكم مستقلة متخصصة في الأخطاء الطبية، ويرأسها قاضٍ لا تقل درجته عن فئة (أ)، وتعد قراراتها أحكاما شرعية، وعقوباتها مستمدة من الشريعة الإسلامية.
ويدافع مسؤولون في «الصحة» عن الوزارة بالقول إنها عملت على التقليل من حدوث الأخطاء الطبية عبر سلسلة من الإجراءات، أبرزها التعاقد مع أطباء وفنيين مختصين ذوي خبرة في المجالات كافة، بالتعاون مع الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، التي تقوم بتوثيق الشهادات العلمية التي يحملها الجهاز الفني الطبي في الجهات الحكومية وغير الحكومية.
ويستشهد المنافحون عن جهود الوزارة باستحداث «الصحة» 5 هيئات صحية شرعية جديدة العام الماضي (في كل من الرياض، الطائف، الشرقية، الجوف وحائل)، إلى جانب عمل دراسة تحليلية شاملة بعنوان «الأخطاء الطبية الشرعية في المملكة العربية السعودية، تحليل وبيان»، تتناول الأخطاء الطبیة التي تقع في المؤسسات الصحية الحكومية والأهلية، عبر الإحصائية السنوية لأعمال الهيئات الصحية الشرعية بالمملكة وتحليل أداء مختلف التخصصات الطبیة، إضافة إلى الانتهاء من تحديث نظام لائحة مزاولة المهن الصحية بما يتناسب مع التطور الحالي، وعمل مؤشرات قياس أداء لهذه الهيئات، وإيجاد مقترح بجدول زمني وخطوات عمل لتطوير الهيئات الصحية الشرعية ونقلها لوزارة العدل.
وأمام دفوعات المسؤولين الذين يرون في الملف حساسية تحتم عدم ظهور أسمائهم ومناصبهم، لا ينسى أهالي من تضرروا من الأخطاء الطبية مأساة الضحايا، فمنهم من رحل، ومنهم من يعيش في آفة تلاحقه، فيما لم تمح الأعوام فاجعة الصدمة عند عدد كبير منهم.
وتشير إحصائية عن وزارة الصحة نهاية 1437 (حصلت «عكاظ» على نسخة منها) إلى أن الهيئات الصحية الشرعية أصدرت عام 1437، 1097 قراراً في 4282 جلسة بمعدل 3.9 جلسة لكل قرار. ووصل مجموع القرارات المتعلقة بوفيات الأخطاء الطبية 408 قرارات؛ منها 185، (45%) صدر فيها قرارات إدانة.
واحتلت الطائف المركز الأول في عدد قرارات الإدانة في قضايا الوفيات الناتجة عن الأخطاء الطبية الصادرة عن الهيئات الصحية الشرعية بواقع 32 قرار إدانة، وتلتها مكة المكرمة بـ30 قرار إدانة، ثم الرياض وجدة بـ23 قرارا لكل منهما.
ويحمل مدير الطوارئ والعلاقات الخارجية في أحد المستشفيات الخاصة خالد عبدالكريم، الطاقم الطبي والمستشفى كامل المسؤولية عن كل ما ينجم على المريض من خطأ طبي طالما توفر برهان واضح ودليل قوي.
وقال عبدالكريم في حديث لـ«عكاظ» إن مسؤولية الأطباء شرعياً وطبياً تنحصر في بذل أقصى الجهود المتاحة لتقديم العناية الطبية الفائقة للمرضى، معرفاً الخطأ الطبي بـ«إجراء غير صحيح تم تطبيقه على المريض أثناء التشخيص أو أثناء إقرار خطة العلاج أو أثناء تطبيقها، ويؤدي ذلك إلى تأذي المريض وضرر يلحق به نتيجة هذا الإجراء الخطأ وقد يكون المسؤول عنه إما الطبيب أو التمريض أو إدارة المستشفى».
معاناة بلا حلول.. والأهل يتجرعون مرارة الصدمة
بعد رصد عدد كبير منها في مستشفيات وزارة الصحة، تشكل الأخطاء الطبية معاناة حقيقية للمواطن في أنحاء المملكة، الذي يدفع ثمنها وحيدا، من ماله ودمه، فيما تعرضت سيدات لأخطاء طبية أثناء الولادة، كانت كفيلة بإنهاء حياتهن.
ولم تبتعد قصة رحيل الصحفي محمد الثبيتي عن قصة رهام الشهيرة، إذ دخل المستشفى لإجراء عملية «خراج» بسيطة، وبعد إفاقته حدث خطأ من أحد أفراد الفريق الطبي، وتحديدا في فصل جهاز الأوكسجين وعدم معرفة إعادته لوضعه الصحيح لأكثر من 10 دقائق، ليتوقف قلب محمد عن النبض، وبعد محاولات لتركيب أنبوب الأوكسجين تم تدارك الوضع ولكن بعد أن فقد وعيه ليدخل بعدها في غيبوبة تجاوزت الأسابيع الثلاثة، قبل أن ينتقل إلى جوار ربه، إثر خطأ طبي لا مبرر له. أما في الرياض حين دلفت إحداهن إلى غرفة الولادة بأحد المستشفيات أخبرها الطبيب أن نبض الطفل ممتاز، والأمور تسير بشكل جيد، وبعد الولادة فوجئ زوجها بنقلها إلى غرفة العمليات القيصرية لتنظيف الرحم، وهنا حدثت المأساة، إذ فقدت كمية كبيرة من الدم، وعلى رغم محاولات الأطباء إسعافها إلا أنها توفيت دماغيا، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد 23 يوما. وفي الطائف، لا يزال عواض الحارثي يتذكر قصة رحيل زوجته، التي دخلت إلى مستشفى الملك فيصل سيرا على الأقدام، وبعد تنويمها لإجراء عملية جراحية دخلت في غيبوبة طويلة حتى فارقت الحياة دون سبب واضح. وخطأ طبي آخر أدى إلى رحيل عبدالعزيز العيلي، بعدما دخل المستشفى لاستئصال خراج في الفخذ، وبعد خروجه من غرفة العمليات تدهورت حالته وتوقف التنفس وتباطأت ضربات القلب، لينقل إلى العناية المركزة، ويفارق الحياة.
وفي مستشفى خاص بالعاصمة المقدسة لقيت سيدة حتفها بعد ولادة طفلها بوقت قصير، ويعتقد زوجها أن وفاتها نتيجة خطأ طبي.
استقلال اللجان ضرورة.. وبيروقراطية إجراءات التقاضي معضلة
يرى ممثل عدد من المتضررين في قضايا تتعلق بأخطاء طبية داخل مستشفيات وزارة الصحة علي آل حطاب، أن ارتفاع الأخطاء الطبية في المملكة يعتمد على محورين مهمين؛ «طبي» و«إداري»، مشيراً إلى أن المحور الطبي يأتي على مستوى التأهيل والرصد والمكافحة لتقليل الخطأ الطبي، والمحور الإداري على مستوى الإجراءات والهيكلة للحد من الإهمال والفساد.
وشدد آل حطاب لـ«عكاظ» على ضرورة تقييم مصداقية اعتماد المستشفيات العامة، نظراً لتكرار حدوث أخطاء طبية فضيعة، لا يمكن أن تحدث في منشأة تحكم أداؤها سياسات ومعايير منضبطة، مؤكداً ضرورة استحداث إدارات متخصصة لرقابة وضبط الجودة في مختلف المناطق، تشرف عليها كفاءات تتحلى بالقدرة والمعرفة والأمانة، وضرورة إيجاد مشاريع مع كبريات شركات مقدمي الخدمات الطبية على النطاق العالمي، عبر نماذج شراكة قادرة على تنويع وتعزيز سبل تقديم الرعاية الطبية في المملكة، وإنعاش إدارتي المتابعة والمراجعة بالوزارة، وتطوير إجراءات التعامل فيها مع البلاغات والشكاوى المتعلقة بالفساد والقصور الإداري، وضمان تفعيل مبدأ العقاب والحساب، وربطهما بالوزير مباشرة.
وطالب بضرورة اشتمال مناهج التعليم الطبي والصحي على مقررات حول الأخطاء الطبية بالتعاون مع وزارة التعليم، وكيفية التعامل معها، وتقليلها، بحسب توصيات الجهات المعتمدة عالميا، كتوصيات معهد الطب الأمريكي، ووضع مقرر عن الأخطاء الطبية في قائمة المقررات المطلوبة لتجديد رخص الممارسين الصحيين.
كما شدد على ضرورة استقلال اللجان المختصة في التحقيق بالأخطاء الطبية.
وأوضح المستشار القانوني فهد محبوب، أن الإجراءات المتبعة في حالة رفع قضية ضد خطأ طبي، تبدأ بالتحفظ على الملف الطبي، منع ذوي العلاقة (المتهمين) من السفر إلا بتعيين كفيل نظامي ووكيل شرعي لحضور جلسات المحاكمة، تعبئة النموذج رقم 10 من قبل الشاكي والمتهمين بحضور لجنة طبية أولية في ذات المستشفى الذي وقع فيه الخطأ، إعداد تقرير طبي مفصل عن حالة المريض مع إرفاق توصيات اللجنة الطبية الأولية، رفع الملف الطبي وكافة مرفقاته من تحاليل وأشعة وغيرها مع النموذج رقم 10 وتقرير اللجنة إلى الهيئة الصحية الشرعية لمتابعة المحاكمة.
وبين أن القضية تحال بعد استكمال المسوغات النظامية إلى اللجنة الصحية الشرعية بوزارة الصحة لاستكمال التحقيق والمحاكمة، وللجنة الحق في إرسال التقرير الطبي وملف المريض إلى جهة طبية أخرى محايدة لدراسة الحالة وللاسترشاد برأيها.