مبارك الفقيه- راصد الخليج-
لا تصافحني وأبقِ يدك في جيبك أو ضمّها إلى صدرك، فالتحية أسلم لك ولي وأنت بعيدٌ عني، وإذا أردتَ الكلام معي فاجعلْ فمك مكموماً، وغطّه بستارة سميكة تقيني من جراثيمك القاتلة.. أهمس لي أو اجعل الإشارة سبيلك إلى تبيان مقصدك، والصمت أفضل.. وإذا أردت رؤيتي فلا تقابلني، بل قف إلى جانبي ولا تجعل وجهك قبالة وجهي، ليس لأنك قبيح المنظر بل لأن مواجهتك لي على جمال مرآك قد تهدّد بقائي على قيد الحياة، فيصبح جمالك قبحاً حين يحوّل جنة حياتي إلى جهنم عذاب يدوم أياماً قبل أن أودّع أحبّتي.. "خليك بالبيت".. أخلوا الشوارع، فالشارع أصبح مركز وباء وبيئة نكبة، ومدن الأشباح على قفارها أصبحت مؤنسة أكثر من زحام يحمل معه لوثة الموت القادم على متن جرثومة خفية لا تعرف هوية أو انتماء، ولا تميّز بين أعراق وأجناس وأديان وأعمار، ولا توفّر غنياً أو فقيراً ولا ملكاً أو مملوكاً.
هو يوم القيامة أو يوم انقلاب القيم في إنسانيتها ومبادئها الاجتماعية، جرثومة كما فوق البعوضة تتعملق أمامها الأردة، وتحتويها الخليّة على تناهي صغرها، أحالت الكون إلى كتلة فوضى تدور في دوّامة جنون، لا يدرك فيها الحاكم سبيلاً إلى استقرار، ويحار معها المحكوم في بحثه عن المفرّ، وكل امرئ يجهّز نفسه للفرار من حوزته وكأنه يشهد يوم النشور، فلا أبّ ولا أمّ يحتضن، ولا ولد يبرّ، ولا عضد يحمي ويسند.. ترى الناس سكارى وما هم بسكارى، وحصحص الشرّ في مرجل الصراع على البقاء، وبات الكل عدوّاً للكلّ، ينظر بعضهم إلى بعض بعين المريب، يترصّده ضحيةً للفتك به لاغتنامه كما الضبع، وينزوي عنه انزواء الطريد الخائف من وثبة السبع، والكون كلّه يتجهّز للحريق الأكبر.
إنه الكورونا الذي يجتاح العالم بلا قيد، ومعه تتسارع أرقام عدّادات الموت وكأنه ريح صفراء تنشر اليباس والقحط حيثما تحلّ نسائمه، ولا أحد حتى هذه اللحظة قادراً على فهم ما يجري، وحده الهلع يسري بين الناس كما السيل في مجرى السواقي، ويتفرّع في أخاديد مبعثرة ليمعن في شرذمة السهل بلا استقرار.. ثمة من يقول إنها إرهاصات حرب عالمية ثالثة بدأت بجرثومة وستنتهي بمعادلة البارود، وثمة من يعتبر أنها مسرحية لا بد أن تنتهي فصولها بانكشاف أبطالها دون توقّع شكل النهايات، وثمة من يجزم بأنه هجوم بيولوجي ناتج عن صراعات القوى الكبرى على خارطة تقسيم العالم من جديد، وآخر ينذر بأنه عقاب من الله يمهّد لانتصاب الناس أمام الحساب الآتي، فلا حلّ اليوم في يد البشر ولا مناص من العودة إلى فطرة الدين والإيمان، ولا يكون الخلاص إلا بالابتهال إلى الله ليزيح غيمة حاصد الأرواح الجديد عن كاهل البشر، فيقف الجميع على مذبح الدعاء طلباً لرحمة السماء.
حتى الآن بدأت امبراطوريات العالم تترنّح تحت وطأة الخوف من غموض المواجهة المستمرة، وتفتحت أبواب خزائن المال لتموّل موازنات الاختبارات الطبيّة في سباق مريع لاكتشاف اللقاح الشافي، وتحوّلت المدّخرات المجمّعة من صفقات الرقص على أوجاع الفقراء وسلب ثروات الشعوب إلى كتل مالية جاهزة لاستيعاب الفوضى التي بدأت تضرب عواصم الأنظمة الكبرى في العالم، فلا نظام يحمي الناس من خطر غير مرئي، ولا مناص اليوم من شهر سلاح الدفاع عن النفس في مواجهة كل الأنفس، فليس هناك أغلى من الروح في صراع البقاء على قيدٍ من رمق، وكأننا عدنا إلى عهد العصور الأولى.
لم تبلغ أعداد الضحايا حتى اللحظة في أعلى تقديراتها إلى عدد الضحايا التي حصدتها فايروسات سابقة، ولا إلى أكثر من 2 بالمئة من أعداد قتلى الحرب العالمية الأولى، أو في أي من الحروب العرقية التي نشبت في القرون الوسطى وراح ضحيتها مئات الآلاف من الناس، ولكن المسألة الآن هي في فردانية الخوف، بحيث يشعر كل شخص أنه مهدّد بذاته حيث يسكن وحيث يتجوّل وحيث يكون، حتى ولو كان محشوراً في زوايا مخبئه تحت الأرض.. إنها معادلة جديدة في تشكيل المجتمعات التي ارتدّت إلى ذواتها، فلم تعد هناك أنماط معولمة ثقافياً واقتصادياً، وتقزّم الاستعمار باتجاه تجميد الطموحات التوسّعية، فالأجدى الآن الانكماش على النفس في رِدّة ارتكاسية طبيعية فرضتها ضرورات الحفاظ على البنية الخاصة بكل مجتمع إلى حين هدوء عاصفة الكورونا.
أعلنت الصين انتصارها بالتكنولوجيا على وباء الكورونا، فيما تصارع دول أخرى منكوبة في أوروبا وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية لتلتحق بقطار النجاة، وبعضها يقترب من رفع الراية البيضاء وترك مصيرها للقدر في محاكاة عنيفة لسيناريوهات ما يسمّى "القتل الرحيم"، مع ما فيها من شكل آخر من أشكال التوحّش الإنساني، وترجمة فعلية لنزعة نازية تختار من هو الأصلح والأقوى للبقاء، ولا عزاء للفقير الضعيف في ظل سقوط مريع للديمقراطيّات الغربيّة، وفشل ذريع للأنظمة الصحيّة المتطوّرة في الاختبار الحرج، وأصبح العالم أمام تحدّي إجراء تّغييرات جذريّة في مرحلة ما بعد الكورونا، فهل يتوالى سقوط المحرّمات أمام الصراع المحموم للبقاء، أم أن زوبعة الكورونا ستنتهي لتعود بيوت الله مرتعاً للمؤمنين، ويرجع الناس إلى ثقافة القبول المتبادل بعد فكّ الحجر والحظر؟ أم أن ما هو آتٍ سيزيد الخراب سيشرّع للحانقين على أنظمة الحكم والحكام شجاعة الانتقام وهدم الهياكل؟
ما هو مؤكد أن الكورونا فتح الباب واسعاً أمام نقاش كبير وأسئلة حرجة تتطلّب الإجابة عنها من قبل حكّام الدول والأنظمة في العالم، وليس فقط في منطقتنا العربية والإسلامية، وتستبطن في عمقها محطة للوقوف ملياّ أمام نموذج النمرود الذي هزمته بعوضة، ودفعته ليلقي بتيجانه أرضاً، وليضرب رأسه بالنعل أملاً بالشفاء من تلف دماغه، فهل من معتبِر؟!