الامارات اليوم-
لم يثبت علمياً حتى اللحظة أن لإدمان المخدرات دوافع وراثية، لكن هناك إجماعاً على أنه مرض له أسباب نفسية ومجتمعية.
وإذ يحدد القانون نوعين للمدمنين، أحدهما يصر على إدمانه فيصبح متهماً، وآخر يطلب العلاج فيعامل كمريض يحتاج إلى يد المساعدة، فإن نظرة المجتمع للنوعين واحدة، حتى في حال التعافي من الإدمان، الأسرة تلفظ ابنها، والزوجة تطلب الطلاق، وسوق العمل ليست أكثر رحمة، في حين تظل «بوابة الانتكاسة» مفتوحة على مصرعيها.
ورغم الجهود المبذولة لاستيعاب المتعافين، وتشجيع المدمنين على الإقلاع عن المخدرات، إلا أن الدولة مازالت تعاني نقصاً في عدد مراكز العلاج والتأهيل، ونقصاً في الكوادر الطبية المؤهلة، ومحدودية عدد الأسرة المتاحة في المصحات العلاجية الحكومية، وضعف برامج الرعاية اللاحقة، فضلاً عن جملة من التحديات الصحية والاجتماعية والقانونية، التي تكون سبباً في عودة المتعافين إلى دائرة الإدمان مرة أخرى.
في ملف «العائدون من الإدمان» تسلط «الإمارات اليوم» الضوء على التحديات التي تواجه المدمنين في رحلة العلاج، والأسباب التي تؤدي إلى الانتكاسة، ورؤى الجهات الطبية والشرطية والقانونية والمختصين في كيفية تبني استراتيجية وطنية شاملة للحد من انتشار الإدمان.
عجوز تشق طريقها بصعوبة إلى المركز الوطني للتأهيل في أبوظبي، لزيارة نجلها الذي يعالج من الإدمان، وسيارة إسعاف تنقل مدمناً تعاطى جرعة زائدة من المخدر، وأخرى تنقل بأمر المحكمة مدمناً للعلاج، وشاب في العقد الثالث من عمره يجلس منتشياً وهو يدخن سيجارة قبل أن يخضع ـ بإرادته ــ للعلاج.
وإذ تتكرر هذه المشاهد بشكل شبه يومي عند البوابة، فإنها تبقى عناوين لحكايات لأشخاص اختلفت قصة كل منهم مع الإدمان، لكن القاسم المشترك أنهم في نهاية المطاف بدأوا رحلة العودة إلى الحياة.
وحسب مسؤولي المركز، فهو يستقبل حالات من مختلف مناطق الدولة، بعضها قطع أصحابها مسافات طويلة من مناطق نائية في شمال الدولة وشرقها، رغبة في العلاج من إدمان المخدرات، في ظل نقص المراكز المختصة في هذا المجال في المناطق التي يسكنون فيها.
وهناك مرضى، أحضرهم ذووهم إلى المركز، بعد أن خضعوا لمحاولات علاج فاشلة في مصحات أخرى انتهت بانتكاس حالاتهم، ويحتاجون إلى إعادة المحاولة، ومرضى آخرون قضوا عقوبة التعاطي داخل السجون، ثم عادوا مرة أخرى للإدمان.
وداخل المركز، التقينا عدداً من المتعافين، الذين تمكنوا من التوقف عن تعاطي المخدرات، والمحافظة على استمرارية هذا الإنجاز، لسنوات طويلة، ورووا تجاربهم المؤلمة، والتحديات التي واجهتهم كمرضى.
عبدالله سعيد (47 سنة ــ متعافٍ من إدمان الهيروين) روى قصته لـ«الإمارات اليوم»، قائلاً: «كان عمري 22 عاماً، عندما بدأت تجربة تعاطي المخدرات، حينها كنت في زيارة إلى بانكوك، وكان لدي فضول شديد لمعرفة تأثيرها وكيف تفقد الإنسان سيطرته على تصرفاته، لكن للأسف تحولت التجربة إلى إدمان استمر 23 عاماً متواصلة، تعاطيت خلالها مختلف أنواع المؤثرات العقلية والمخدرات، كان آخرها الهيروين».
وأضاف: «كنت أسيطر على نفسي في بداية رحلة التعاطي، وأتحكم في جرعات المخدر، وأوهم نفسي بأنني أستطيع الإقلاع عنه في أي وقت متى أشاء، حتى تجاوزت مرحلة (اللذة)، ودخلت في مرحلة (الانحدار والألم)، ثم الإدمان الشديد وعدم القدرة على الاستغناء عن المخدر، وما سرع وتيرة هذا التدهور أنني لم تكن لدي مشكلة مالية في شراء المخدرات».
وتابع أنه كان مثل غيره من مرضى الإدمان على المخدرات لسنوات طويلة، ليس لديه أمل في إمكانية التوقف عن الإدمان والخروج من هذا المستنقع، واستمر في التعاطي حتى دخل السجن أكثر من مرة، ثم أجبره أهله على الدخول إلى مصحة علاجية، لكن لم تفلح محاولات العلاج معه، فانتكس وعاد مرة أخرى للتعاطي.
ولفت عبدالله، إلى أن «المصحات وعيادات الإدمان، لا تقدم علاجاً ناجزاً، وتقتصر مهمتها فقط على إخراج السموم من جسم المتعاطي، ومنع وصول المخدرات إليه لأشهر عدة، ثم يتم إخراجه على سند خاطئ أنه تم علاجه، وهو أمر خطأ وخطر، إذ يعاود معظم المتعالجين بعد هذه المرحلة إلى الانتكاس والتعاطي مرة أخرى».
وقال إنه «تم تحويله إلى المركز الوطني للتأهيل في أبوظبي، حيث تم استقباله بحفاوة واحترام شديدين، وسمع لأول مرة من المختصين أنه حالة مرضية تحتاج إلى علاج، وليس إنساناً مجرماً ومنحرفاً سلوكياً، كما كان يصور له الآخرون، وقد أحس بعد فترة من العلاج براحة نفسية واقتناع بإمكانية التوقف نهائياً عن المخدرات، وأصبح متعافياً من الإدمان منذ ثلاث سنوات وستة أشهر، ويتبع برامج علاجية ينفذها للمحافظة على التعافي».
وطالب عبدالله بضرورة التوسع في إنشاء مراكز تأهيل للمدمنين على مستوى الدولة، بما يساعد مرضى الإدمان على التعافي والاستمرارية والاندماج في الحياة الاجتماعية مرة أخرى، فضلاً عن تصحيح المفاهيم الخاطئة عن طبيعة مرض المدمنين، سواء عند الأسر أو المصحات العلاجية أو السجون، إذ لا تشجع طرق التعامل السلبية الحالية على تعافي مرضى الإدمان، بل بالعكس تترك تأثيراً سلبياً يجعلهم يواصلون التعاطي والتحايل على طرق العلاج التقليدية.
أمّا علي جلال (43 سنة، متعافٍ من الإدمان)، فقال إن «تجربته مع المخدرات بدأت مع أحد أقاربه، الذي شجعه على تعاطي الحشيش وهو في سن الـ14، ثم تدرج بعدها نحو تعاطي أنواع مختلفة من المخدرات حتى وصل إلى الهيروين، واستمرت رحلة إدمانه أكثر من 11 سنة، خسر فيها أسرته، ودخل السجن أكثر من مرة»،
وأضاف «أخذت قرار التوقف عن الإدمان بعد تدهور حالة والدي الصحية، ومشاهدتي لثلاثة من أصدقائي قد تعافوا من المخدرات بعد دخولهم المركز الوطني للتأهيل، حيث عرضوا علي الالتحاق بالمركز، وتعافيت من الإدمان منذ 14 سنة وتسعة أشهر».
وتابع جلال: «مرضى إدمان المخدرات يواجهون مشكلة حقيقية في الحصول على سبل العلاج الصحيحة التي تمكنهم من التوقف عن التعاطي والمحافظة على استمرارية التعافي وعدم الانتكاس مرة أخرى، وللأسف يوجد مركز تأهيل وحيد يعالج الإدمان على مستوى الدولة، هو المركز الوطني للتأهيل في أبوظبي، في حين أن هناك مدمنين في مناطق مختلفة من الدولة، ولا يجدون المكان المناسب للعلاج»، مضيفاً «أن أغلبية مرضى الإدمان الذين يتم تحويلهم من المحاكم أو مراكز الشرطة إلى عيادات علاج الإدمان في المستشفيات، ينتكسون مرة أخرى بعد خروجهم، إذ يتم حجزهم داخل مصحات لفترة تمتد لأشهر عدة، يتحول فيها المدمن من النشاط إلى التوقف من دون أن يصل إلى التعافي من المخدرات، ثم ما يلبث أن يعاود مرة أخرى للإدمان بعد خروجه».
وأكد «أهمية أن تتعامل الجهات الصحية والشرطية في الدولة مع المدمنين على أنهم يعانون مرضاً مزمناً كمرض السكري والضغط وغيرهما، ويحتاجون إلى الدعم والمساعدة طوال حياتهم حتى يحافظوا على تعافيهم من الإدمان».
وأشار إلى «أهمية إعادة النظر أيضاً في القوانين الحالية، بحيث لا يتم تحويل المضبوطين في قضايا المخدرات إلى السجون، لما يشكله ذلك من خطورة في زيادة عدد المرضى بسبب اختلاط المبتدئين في رحلة التعاطي مع القدامى، ولابد من تحويلهم إلى مراكز تأهيل متخصصة»، مؤكداً أن السجن ليس حلاً علاجياً للمدمن، وإنما الحل في دخوله مركز تأهيل، حيث تزيد فرصة تعافيه واستمراريته.
مأساة
(خليفة)، الذي جرفته بعض المشكلات العائلية والعاطفية إلى الإدمان، لم ينسَ يوم أن حاول دهس أخاه بالسيارة تحت تأثير المخدر، وعندما أرادت والدته منعه من ذلك، أصابها عن طريق الخطأ، كما لم ينسَ أنه كان السبب في وفاة أحد أصدقائه عندما أعطاه المخدرات وأخذ منها جرعة زائدة أفقدته حياته.
وروى خليفة قصته، قائلا: «بدأت الإدمان بدافع التجربة وأنا في الـ16 من عمري، وواصلت تعاطي حبوب (الترامادول) لمدة خمس سنوات، ثم امتلكت الشجاعة على مواجهة مشكلتي مع الإدمان، ولجأت بمساعدة أشقائي للجوء إلى المركز الوطني للتأهيل بأبوظبي».
وأضاف: «بالطبع واجهت بعض الصعوبات في بادئ الأمر، مثل بعض الآلام والأوجاع في فترة العلاج التي تسمى العوارض الانسحابية، وآلام بالجسم، وآلام مفاصل».
وتابع: «اكتسبت داخل مركز التأهيل مهارات عدة كنت أفتقدها، حيث كانوا يعدون لنا حلقات نقاشية ومجموعات نروي خلالها تجاربنا في وجود مختصين نفسيين واجتماعيين، نتكلم بصراحة ونتبادل موضوعات ونعبر عما بداخلنا، ويقدمون لنا نصائح ويفتحون لنا المجال لأي سؤال أو استفسار يخطر على بالنا، هذه الحلقات زادت ثقتي بنفسي ومنحتني قوة في استكمال العلاج وقوة في الشخصية والدخول في نقاشات وحوارات دون خوف أو تردد».
وواصل (خليفة): «اليوم أكملت نحو سنة بعد التعافي، لم أتعاطَ خلالها أي مخدر، وهناك أساسيات تعلمتها خلال فترة وجودي بالمركز، وهي الابتعاد عن ثلاثة أشياء، هي: الأماكن التي كنت أقصدها عندما كنت مدمناً، والأشخاص (أصدقاء السوء)، والأدوات التي كنت استعملها وقتها (المخدرات وتوابعها)».
وزاد: «إذا التقيت بمدمن في فترة من الفترات لن أساعده، لأنني أولاً ضعيف، وأخاف على نفسي من الرجوع إلى التعاطي، وثانياً لأن المتعاطي لا يقبل ولا يسمع النصيحة، إلا عندما يقرر بنفسه العلاج، لذا أفضل أن أذهب إلى أحد أفراد أسرته أو أقاربه وأقترح عليه طريقة لإرساله إلى المركز للتأهيل».
ويتفق (خليفة) مع زملائه على أهمية إنشاء مزيد من مراكز التأهيل في الدولة، لأن ليس كل المدمنين يستطيعون الوصول إلى المركز الوطني للتأهيل في أبوظبي، فضلاً عن محدودية عدد الأسرّة به مقارنة بأعداد المدمنين، وكذا تحويل المضبوطين في قضايا تعاطي المخدرات، إلى مراكز تأهيل متخصصة، وعدم وضعهم في السجون، لأن ذلك يسهم في تقليل فرص تعافيهم، ومن ثم فإن هناك حاجة إلى إعادة النظر في التشريعات والقوانين المتعلقة بذلك.
أمّا (علي)، الذي بدأ التعاطي منذ سبع سنوات، عندما كان عمره 17 عاماً، واستمر حتى أصبح عمره 24 سنة، فقال: «كنت أقنع نفسي بأن لا أحد سيعرف أنني أتعاطى مخدرات، رغم أنني كنت أسمع عن النهايات المأساوية التي تصيب المدمن، إلا أن خيالي صوّر إليّ سهولة الرجوع عن هذا الطريق في أي وقت أشاء، وكنت متوهماً، ولم أرتدع وأتعظ من تجربة خالي الذي توفي بسبب تعاطيه جرعة زائدة من المخدرات، ولم أفكر في التوقف، لكن بعد تورطي في قضايا عدة لجأت إلى برنامج الـ12 خطوة لعلاج الإدمان، وظللت فيه لمدة بسيطة ولم أكمل، لأني أحسست نفسي ضعيفاً ولن أستفيد، ولكن بعد آخر قضية مررت بها شعرت بالذل الكبير، وتعبت نفسياً، لأنني خسرت الكثير، عملي ونفسي وصحتي، وفي هذه الأثناء فكرت في ذاتي قبل أن أفكر بأي أحد آخر، وكيف أنقذ نفسي وأحاول الخروج من هذه الهاوية التي وقعت فيها، وفور خروجي من السجن اتصلت بالوالدة وأخبرتها أنني قررت العلاج والتعافي، وسأتجه إلى المركز الوطني للتأهيل».
وأضاف: «السجن ليس حلاً عقابياً للمدمنين، ولابد من العمل على إلحاقهم بمراكز تأهيل لمساعدتهم على التوقف عن الإدمان، من خلال برامج علاجية وتأهيلية، فضلاً عن تشديد الرقابة الأسرية على الأبناء، وكذا تكثيف البرامج التوعوية بخطورة المخدرات، حتى لا يقع ضحايا جدد».
زوجات يطلبن الطلاق من أزواجهن المدمنين
تستقبل لجان التوجيه الأسري في محاكم الدولة نسبة غير قليلة من شكاوى أسرية، تطالب فيها زوجات بالطلاق من أزواجهن المدمنين، حسب المستشار الأسري عيسي المسكري، الذي أكد أن المستشارين الأسريين يعملون على احتواء مثل هذه المشكلات بقدر الإمكان، عبر توضيح طبيعة مرض الإدمان للمشتكيات، وحثهن على مد يد العون لأزواجهن المدمنين، بإدخالهم مراكز العلاج والتأهيل.
وأكد المسكري، أهمية تعزيز وعي الزوجات بطبيعة مشكلة الإدمان، وأنه مرض يحتاج إلى العلاج، لافتاً إلى أن المدمن قد يتميز عن غيره بصفات إيجابية، مثل الطيبة والشهامة والعطف على أهل بيته والكرم وغير ذلك، لكنه يعاني مشكلة الإدمان، ويحتاج إلى من يساعده على تجاوز هذا المرض.
وقال إنه يجب التعاطي مع مشكلة الإدمان من خلال محاور عدة، الأول يتعلق بالعلاج، وإزالة سموم المخدر من الجسم، والثاني متعلق بتغيير سلوك المدمن وإكسابه المهارات الاجتماعية اللازمة للاندماج في المجتمع، وتدريبه على كيفية مواجهة الشعور بالدونية والفشل والانهزامية، فضلاً عن الاستفادة من تجربته بالعمل على تحويله لشخص ناجع يساعد أقرانه المدمنين على التوقف عن الإدمان.
جهات ترفض تعيين «سوابق الإدمان»
كشف مدير عام المركز الوطني للتأهيل، الدكتور حمد الغافري، أن هناك عقبة في توظيف المتعافين من مرض الإدمان بسبب نظرة المجتمع إليهم، مشيراً إلى أن المدمن ليس مريضاً نفسياً، وبعد إزالة أسباب إدمانه بالعلاج يعود إلى حالته الطبيعية.
ويشير إلى أن بعض الجهات ترفض استقبال وتعيين الأشخاص الذين تم علاجهم وإدخالهم في البرامج العلاجية، ما يعد أحد التحديات الكبيرة التي يعمل المركز على تذليلها.
وذكر الغافري أن المركز الوطني للتأهيل وقع اتفاق تعاون مشتركاً مع مجلس أبوظبي للتوطين يهدف إلى تأهيل وتطوير المتعافين للدخول في سوق العمل وتأمين كل الوسائل العلاجية والتأهيلية المتاحة لهم لإعادة دمجهم في المجتمع وتحويلهم إلى عناصر إيجابية تسهم بفاعلية في دفع مسيرة التنمية ورد الجميل إلى الوطن.
وهدفت هذه الاتفاقية إلى تحديد أطر التعاون حول ترشيح المرضى المتعافين لدى المركز الوطني للتأهيل بهدف الاستفادة من البرامج التدريبية والفرص الوظيفية التي يسعى مجلس أبوظبي للتوطين إلى توفيرها لدى جهات العمل المختلفة في الإمارة.