تشكل معاناة المرضى النفسيين ممن يهيمون في الشوارع، ويفترشون الأرصفة هاجساً مقلقاً للجهات المختصة، فالمشاهد لتلك المناظر يتملّكه الألم والشفقة على الواقع، وعلى حال هذه الفئة وهو يشاهد في أعينهم حكايات الحرمان، التي تظهر في ملامحهم التي تُجسّد معنى البؤس وقلّة الحيلة، وربما قصور في متابعة ومعالجة أحوالهم.
دراسات واجتماعات وورش عمل أرجعت أسباب تلك المعاناة لإهمال أسرهم وذويهم لهم، وإنكار شريحة كبيرة من المجتمع لهم ونفوره منهم وعجز المستشفيات ودور الرعاية الاجتماعية المتخصصة من احتوائهم بسبب الطاقة السريرية في تلك المواقع.
مراكز أجواد للرعاية المجتمعية
من هذا المنطلق بدأت فكرة إنشاء مراكز أجواد للرعاية المجتمعية في الرياض وجدة والتي تشرف عليها اللجنة الوطنية لتعزيز الصحة النفسية بوزارة الصحة كأول مراكز خيرية غير هادفة للربح لتولي رعاية وتأهيل المرضى العقليين الذين يعانون من الإهمال والرفض من قبل أسرهم وتحقيقا للأهداف النبيلة التي حث عليها ديننا الإسلامي الحنيف وبدعم من قبل المؤسسات والجمعيات الخيرية المتاحة من خلال استئجار مقرات للمراكز بمدينة الرياض وجدة تم تجهيزها وتهيئتها حسب الاحتياج حيث تحول تلك المراكز إلى أجنحة للاستضافة وصالات رياضية وكذلك صالات طعام وغرف مخصصة للجلسات الجماعية والفردية وقسم لتقديم العناية الشخصية وركن للتأهيل المهني ومصلى وصالة للزيارات الأسرية بالإضافة الى المسطحات الخضراء بهدف احتواء هؤلاء والتخفيف من معاناتهم بدعم من الجهات الرسمية ذات العلاقة وأفراد ومؤسسات المجتمع لهذه الفئة والتي هي بأمس الحاجة للدعم والمساندة.
"الرياض" تفتح في ملف «المرضى النفسيين» والتائهين في الشوارع ورصد الخدمات المقدمة عبر المركز، حيث ألتقينا مدير المركز سعد الأسمري الذي تحدث عن الآلية الجديدة لرعاية وتأهيل المرضى النفسيين التائهين والمشردين وحمايتهم والتي يقدمها المركز، مشيراً إلى أن المركز يهدف لرعاية وتأهيل المرضى النفسيين والتائهين ممن يقطنون في العادة الحدائق العامة والكباري وبالقرب من دورات المياه ممن رفضتهم أسرهم أو تم فقدهم وتاهوا بالطريق ولم يعرفوا العودة لمنازلهم حيث يعمل طاقم المركز على تأهيلهم وتهيئة المكان والبيئة المناسبة لاستقبالهم في غرف نظيفة وبيئة مناسبة وتأهيل المرضى على العناية الشخصية والاندماج والمشاركة مع الآخرين إضافة لتأهيل أسر المرضى من خلال برنامج تواصلي مع أسرتي وتحسين بيئة المرضى النفسيين داخل أسرهم.
تشخيص الحالات
وأضاف أن شروط المركز في تقديم الخدمة للمستفيدين سهلة وميسرة حيث تبدأ بتشخيص الحالة على أنه مرض نفسي، ويتم تحويلها من المستشفى أو العيادة المختصة وفق نموذج معين ومخصص لذلك، وألا يكون للمريض سلوكيات تمنع تقديم الخدمة له، مثل وجود سلوك عدواني أو تهيج أو بعض الأمور التي تكون في حاجة إلى تدخل طبي بحت، إضافة إلى عدم معاناته من أمراض معدية أو تخلف عقلي شديد، وألا يقل عمر الشخص عن 18 عاماً.
120 حالة
وأكد الأسمري أن المركز نجح منذ افتتاحه عام 1/1/1434هـ في احتواء(120) حالة (70) منهم عادوا لأسرهم بعد الاستفاده من خدمات المركز وإعاده تأهيلهم و(50) حالة نعمل الآن على تأهيلهم في وقت قياسي أما في مكة فقد استفاد من خدمات المركز (57) حالة ويوجد بالمركز الأن (18) حالة يعمل المركز على توفير الخدمات لهم، مشيراً إلى إن المركز يقدم خدمة الرعاية والتأهيل وليست الرعاية فقط، وينهج نهج السياسة المفتوحة، إذ لا يوجــد به إيواء ولا أبواب مغلقة، ويكون للمريض حرية الدخول والخروج متى ما أراد، والمركز يحاول خلق بيئة بديلة للبــيئة التي كان يوجد فيها المريض النفسي، إضافة إلى خــلق الراحة والــطمأنينة للمســتفيد وتوفير مختلف أنواع الاحتياجات سواء كانت شخصية أم نفسية أم اجتماعية أم تأهيلية، كما يقدم خدمة مفقـودة لا تقدمها القطاعات الأخرى، التي تساهم في إعادة المريض في شكل تدريجي إلى وضعه الطبيعي، ويهتم المركز بأن يتجول المريض في الشوارع كأي شخص عادي بهندام نظيف وشكل أنيق، مع مراعاة أخذ العلاجات في حال وجودها، وبعض هذه الحالات تأتي إلى المركز فقط وقت النوم سواء في المساء أم وقت الظهيرة، والبعض منها يأتي فقط للاستمتاع بالبرامج المقدمة ومن ثم الخروج.
كسر الحواجز!
وأوضح مدير المركز بأنهم يستخدمون مصطلحات وعبارات جديدة في المركز، إذ إن الطبيب يطلق عليه مسمى "مشرف فني"، والممرض يسمى "منسق فني"، إضافة إلى أسماء البرامج مثل «عنايتي»، و«راحتى»، وذلك لكسر الحواجز لدى بعض المرضى الذين يعانون من خلفيات سيئة بسبب إقامتهم في بعض المستشفيات، إذ إن بعض المرضى النفسيين يتخوفون من المستشفيات، مشيراً إلى أن اختيار اسم «أجواد للرعاية المجتمعية» جاء بسبب رفض بعض المرضى النفسيين للمستشفى وخجلهم من معرفة الآخرين بأنهم يذهبون لمستشفيات الصحة النفسية.
أربع مراحل لتأهيل
المرضى النفسيين
أكد الأسمري أن تأهيل المرضى النفسيين بالمركز يمر بأربع مراحل الأولى (العناية الأولية)، ويتم من خلالها تقديم برنامج يسمى «عنايتي»، ويتضمن العناية الشخصية والنظافة العامة، وتدريب المريض على القيام بهذا الدور بشكل يومي وتلقائي من دون توجيه، إضافةً إلى الاهتمام بالناحية الغذائية والوجبات الصحية ومتابعتها حسب الحالة، والمرحلة الثانية (المشاركة والاندماج)، ويتم تقديمها من خلال برنامج «راحتي» الذي يشتمل على نشاطات ترفيهية ورياضية وثقافية، من خلال الصالات الرياضية الموجودة في المركز وأماكن الاستضافة والراحة والترفيه، إضافة إلى صالة الطعام وأماكن الجلوس والإنترنت وصالونات الحلاقة والعناية الشخصية والمسطحات الخضراء، أما المرحلة الثالثة (التأهيل المتخصص)، التي يتم فيها التدخل الدقيق من خلال بعض البرامج المختصة، مثل برامج تصحيح الأفكار الخاطئة والتحفيز والدعم والتركيز، إضافة إلى تعزيز السلوكيات الفردية والجماعية، مبيناً أنّها تشتمل على جلساتٍ نفسية واجتماعية لمساعدة المريض على حل مشكلاته وتنمية قدراته ومساعدته على التكيف مع الوضع الذي يعيشه، وتتمثل المرحلة الرابعة في (المتابعة المستمرة)، وتشتمل على برنامج «تواصلي مع أسرتي»، لمتابعة المريض حتى بعد خروجه من المركز سواء من خلال زيارته المركز أم العكس، مشدداً على أنّ هذا البرنامج يهدف إلى إعادة بناء العلاقة الأسرية، مشيراً إلى أن المركز نجح في مرحلته الأولى، في الرياض، بإعادة عدد كبير من المرضى إلى أسرهم وتم تقبلهم في شكل جيد، مبيناً أن هذه الأسر كانت تفتقد أساليب ومهارات رعاية المرضى، حيث منحهم المركز عدداً من الدورات التدريبية في أساليب ومهارات رعاية المرضى والتعامل مع الحالات الطارئة.
تعامل «أمني» مع مجهولي الهوية.. و«السفارات» تتابع أوضاع المقيمين
أوضح مدير مركز أجواد أن خدمات المركز لا تقتصر على المواطنين التائهين بالشوارع بل تشمل الخدمات المقيمين أيضا حيث سجل المركز عدة حالات لمرضى نفسيين يقطنون الشوارع من جنسيات عربية متعددة تم نقلهم لمجمعات الأمل والصحة النفسية ومتابعة علاجهم وإعادة تأهيلهم والتواصل مع سفارات بلادهم في المملكة حتى تم إيصالهم لأسرهم خارج المملكة بتوفيق الله.
وعن أغلب العقبات التي تواجه فريق المركز في إيصال خدماته يشير الأسمري أن غالب الحالات التي يتم نقلها لا تملك هوية، ويتم التعامل معهم من خلال تقديم الخدمة لهم حتى تستقر حالهم، ومن ثم يتم تحويلهم إلى الشرطة لاستكمال الإجراءات النظامية، وفي حال كانوا من المخالفين لنظام العمل يتم ترحيلهم بعد استقرار حالتهم النفسية والصحية، أما مجهولي الهوية فيتم تقديم الخدمة لهم ومن ثم تحويلهم إلى الشرطة لاستكمال إجراءاتهم وإصدار بطاقات خاصة بهم بحسب النظام لافتا إلى أن المركز نجح في السنوات الأخيرة في استخراج بطاقات هوية لبعض الحالات وفتح حسابات بنكية لهم وتوظيف آخرين منهم بعد استقرار حالتهم النفسية والصحية وكذلك تسجيل حالات بالضمان الاجتماعي وهناك حالات ترفضهم أسرهم نقوم بتوفير سكن خارجي لهم عن طريق أهل الخير والداعمين للمركز.
بلاغات المواطنين
حول آلية استقبال المستفيدين من خدمات المركز، أوضح الأسمري أن عملية استقبال المرضى المستفيدين من خدمات المركز تبدأ بنقل بعض المرضى من الأماكن العامة من قبل دوريات الأمن أو فرق الهلال الأحمر إلى مجمع الأمل والصحة النفسية لتشخيص الحالة والكشف عليها وتقديم العلاج اللازم والتأكد من ملاءمة التحويل إلى مركز أجواد من عدمه، مبيناً أنه في حال الملاءمة يتم التحويل فوراً، بينما في حال الحاجة إلى العلاج والتنويم يتم بقاءه بالمستشفى وهناك حالات أخرى يقوم المركز بتقديم الخدمة لهم بعد تلقي بلاغات من بعض المواطنين مباشرة بالمركز، حيث يقوم فريق تجوال الخاص بالمركز بالوصول لهم في مواقعهم، مكون من أخصائي نفسي واجتماعي وممرض وسائق يعمل على نقل المريض من موقع تواجده لمجمع الأمل والصحة النفسية ومن ثم متابعة حالته، حتى تستقر بالمستشفى ونقله للمركز بعد استقرار حالته الصحية والنفسية ومن ثم مواصلة تقديم خدمات المركز له، وأيضا يقوم فريق تجوال بجولات في بعض المواقع التي يكثر فيها التائهين ويعمل على دراسة حالتهم ومدى استفادتهم من خدمات المركز وقبولهم فورا بعد التأكد من حاجتهم لخدمات المركز وهناك حالات أخرى يستقبلها المركز من مجمع الأمل والصحة النفسية لتقديم خدمة الرعاية والتأهيل لهم بدءاً من الإيواء المؤقت حتى تستقر حالته والوصول لأسرته .
وأكد مدير مركز أجواد بأن المركز يستقبل جميع الاتصالات والبلاغات من المواطنين والمقيمين الراغبين في تقديم خدمات المركز مشيرا إلى أن المركز يتلقى يوميا نحو ثلاث حالات أو بلاغات عن تائهين بالشوارع ويتم مباشرة تحويل حالات على الفور بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة .
الرياض السعودية-