متابعات-
يعاني الكويتيون الذين يسافرون رفقة أقاربهم المرضى الذين يتلقون العلاج في مستشفيات خارجية، كثيراً من الحنين، كما يتأثرون يومياً بصراع أحبتهم مع المرض، ما دفعهم إلى مواساة بعضهم البعض في تجمعات بعيدة عن الوطن
يجلس أحمد المطيري، بشكل شبه يومي، في شارع الشانزليزيه، في قلب العاصمة الفرنسية باريس، على طاولة أحد المقاهي وحيداً، وهو يتأمل حشود الناس تأتي وتذهب، قبل أن يلتحق به زملاء الغربة الذين تعرف عليهم أثناء تواجدهم مع أقربائهم كمرافقين لهم في رحلة علاجهم من السرطان. يجتمعون يومياً للتباحث في شؤون البلاد والحديث عنها في محاولة لتخفيف غربتهم.
المطيري واحد من بين أكثر من 11 ألف كويتي يعيشون في الخارج بشكل شبه مستمر كمرافقين للمرضى المصابين بأمراض خطيرة والذين ترسلهم الدولة للعلاج في أرقى المستشفيات العالمية وفق برنامج "العلاج في الخارج" المقدم من وزارة الصحة الكويتية للمواطنين. يكوّن هؤلاء الكويتيون مجتمعاً حول المدن الطبية، ويؤسسون أماكن للتجمع اليومي، أو يختارون مقاهي معينة للجلوس فيها وبث همومهم ومخاوفهم والتنفيس عن غربتهم.
يقول المطيري إنّه يعيش في باريس منذ ثلاث سنوات كمرافق لشقيقه الذي أصيب بالسرطان ويعالج في أحد مستشفياتها المعروفة. يتابع لـ"العربي الجديد": "العيش في الخارج صعب جداً، لكن في حال كونك مرافقاً لمريض بالسرطان فالأمر كارثي إذ تعيش كلّ يوم مع احتمال حدوث خطب كبير، وإذا تدهورت صحة المريض الذي معك فإنّ صحتك النفسية تتدهور، وإذا أحبط المريض الذي معك، فإنّك ستحبط معه، علاوة على الاشتياق الطبيعي للوطن والملل من البرد والأمطار والثلوج هنا". يضيف: "يحاول مرافقو المرضى أن يصنعوا وطناً بديلاً هنا، وهكذا ننشئ الدواوين (أماكن تجمع الرجال في الكويت داخل البيوت) كما نعدّ القهوة العربية والشاي، وأحياناً نلبس اللباس الوطني، كجزء من حنيننا للكويت، لكنّ كلّ هذه الأمور لا تكفي من الجانب النفسي للتعويض عن الوطن، وتحمل الوضع الصعب". وبالرغم من أنّ الحكومة الكويتية تسمح لكلّ مريض بإحضار مرافق واحد معه ليعتني به ويكون إلى جانبه، وتعطي للمرافق مكافأة مالية، بالإضافة إلى استمرار عمله في وظيفته الحكومية، فإنّ المطيري يقول لـ"العربي الجديد": "شعور الغربة والمرض لا يُشترى بكلّ أموال الدنيا".
بدوره، يتحدث طلال الشمري، وهو مرافق لوالدته المصابة بالسرطان، إلى أحد مستشفيات باريس أيضاً، لـ"العربي الجديد": "حول كلّ مستشفى يعالج فيه الكويتيون ينمو مجتمع صغير من مرافقي المرضى الذين يجلسون يومياً في بيت أحدهم، ويتحول الجلوس المستمر إلى علاقة صداقة وود كبيرة ننشئ من خلالها ما يشبه مجتمعات المغتربين التي شاهدتها خلال تنقلي حول العالم، هذه المجموعات تنشأ بسبب الاشتراك في الوطن والهمّ، إذ إنّنا جميعاً كويتيون، وجميعنا مرافقون لمرضى بينهم وبين الموت مسافة ليست بالطويلة". يضيف لـ"العربي الجديد": "الجو كئيب هنا، والناس تحتاج بعضها إلى بعض، لأنّنا نسمع في كلّ يوم حديثاً عن مرافق عاد إلى الوطن لأنّ المريض الذي كان يرافقه توفي بعد استعصاء علاجه. لذلك فالمرافقون يحتاجون لهذه الجلسات ولتكوين المجتمعات الصغيرة هذه ليحزنوا مع بعضهم وليحتفلوا مع بعضهم".
من جهة أخرى يشير الشمري إلى أنّ كثيراً من الناس لا يقدّرون المرافقين، بل "يحسدنا البعض لأنّنا نحصل على رواتبنا من الحكومة ولا نعمل، ونعيش في باريس، لكنّ هؤلاء يتناسون الجانب المهم، وهو أنّنا مرافقون لمرضى على وشك الموت، وأنّنا لا نعيش في باريس بل في مستشفيات باريس، وأنّ تجمعنا وجلوسنا ككويتيين مع بعضنا البعض ليس بغرض المرح بل بغرض المواساة والدعم".
يبلغ عدد المرضى الذين أرسلتهم الحكومة الكويتية إلى مستشفيات باريس وحدها 778 مريضاً، فيما يتجاوز عدد مرافقيهم 2000 مرافق بحسب وزارة الصحة الكويتية. وتصل الحالات المرضية المبتعثة إلى العاصمة البريطانية لندن إلى أكثر من 2000 حالة.
يقول إبراهيم السالم، الذي يرافق ابنه في رحلة علاجه في لندن من حروق تعرض لها بسبب حادث سيارة، لـ"العربي الجديد": "من الاعتيادي أن تجد مجموعة من الكويتيين يستأجرون سكناً، أو يقومون بعمل ديوانية في أحد بيوت المرافقين والمرضى، ممن يرافقون المرضى. يجتمع هؤلاء يومياً وقد يصل عدد المجتمعين إلى 40 شخصاً. أما في المناسبات الكبيرة مثل شفاء أحدهم، أو قرب عودته إلى البلاد فإنّ عدد المجتمعين يزيد". يتابع: "نكوّن جماعة فاعلة هنا إلى حدّ أنّ البعض يشتري مكاناً ويحوله إلى مسجد، أو يتولى تدريس أبناء بعض العرب المهاجرين أو المجتمعات المسلمة اللغة العربية". يعتبر السالم أنّ هذه التجمعات ليست ضرورية للمرافقين فحسب، بل إنّ المرضى يشعرون بالراحة وهم يشاهدون أشخاصاً من حولهم يشبهونهم ويقفون معهم في رحلتهم: "أخبرني أحد الاستشاريين في المستشفى الذي يعالج فيه ابني أنّه لم يشاهد تضامناً مع المرضى مثلما شاهده مع الكويتيين على وجه الخصوص، والخليجيين عموماً".
لا تقتصر هذه الدواوين والملتقيات والتجمعات على الكويتيين فحسب، بل يجلس كثير من الخليجيين من جنسيات مختلفة فيها، وهم من ترسلهم دولهم للعلاج في هذه المستشفيات، بالإضافة إلى من يرافقونهم.
يقول أحمد سعد الظفيري، وهو مريض بالسرطان، يعالج في أحد مستشفيات لندن لـ"العربي الجديد": "إذا دخلت مجلساً من مجالس الكويتيين المنتشرة في لندن فإنّني أشعر لوهلة كأنّي في وطني، وهو أمر يبعث على الارتياح كثيراً. في بعض الأحيان إذا تحسنت حالتي الصحية أذهب إلى الريف مع مجموعة كبيرة من الكويتيين، فنعدّ القهوة العربية والطبخ العربي الأصيل، ونشعر كما لو أنّنا نخرج إلى الصحراء في الكويت، مع اختلاف المنظر طبعاً". يضيف الظفيري: "ما يسحقني ليس البرد الذي ينخر في عظامنا، بل الشوق إلى الأقارب والأصدقاء وزملاء العمل".