فواز العلمي- الشرق الاوسط السعودية-
أعلن الأمير محمد بن سلمان عن تخصيص 5 % من عوائد أسهم أرامكو لإنشاء صندوق سيادي ضخم للاستثمار في الشركات العالمية الكبرى، والاستفادة من ريعها في تنويع مصادر الدخل في عصر ما بعد النفط
أخطأ العديد من الخبراء في تفسير تصريحات الأمير محمد بن سلمان، التي أدلى بها قبل 4 أيام لوكالة "بلومبرج" للأنباء، معتقدين أن الحكومة السعودية تسعى إلى بيع احتياطات شركة أرامكو لتغطية العجز في الميزانية وتعويض التراجع في أسعار النفط. وغاب عن أذهان هؤلاء الخبراء أن ولي ولي العهد استند في تصريحاته على القاعدة الاقتصادية الناجحة في مواجهة الأزمات والتصدي للتحديات، التي تعتمد على قدرة الدولة الذاتية في تحويل مزاياها النسبية المؤقتة، مثل النفط، إلى مزايا تنافسية مستدامة مثل الصناديق السيادية، لزيادة قيمة أصولها الثابتة وتعميق استثماراتها المتنوعة.
هذه القاعدة الاقتصادية حققت نجاحاتها اليوم بعد أن أحكم النظام التجاري العالمي شروط المنافسة العادلة بين الشركات الحكومية، فمنعها من ممارسة التجارة نيابة عن الدولة طبقاً للمادة 17 من اتفاقية الجات، وشجعها على تخصيص أصولها وتفويض القطاع الخاص في إدارة شؤونها تنفيذاً للمادتين 8 و9 من اتفاقية الجاتس، وحثها على اتباع قواعد الاستثمار المتصلة بالتجارة وعدم التمييز في المعاملة الوطنية وحق الدولة الأولى بالرعاية تأكيداً لأحكام المادتين الأولى والثانية من اتفاقية إنشاء منظمة التجارة العالمية.
لذا سارعت دول العالم المتقدم إلى الاستفادة من هذه القاعدة الاقتصادية ولجأت إلى فتح باب الاستثمار في شركاتها الحكومية وتخصيصها لتوطين وظائفها وتعميق خبراتها وتصدير منتجاتها. حتى الدول الاشتراكية، مثل الصين وروسيا، نجحت في تقليص أضرارها الاقتصادية بعد تشجيع قطاعها الخاص لضخ استثماراته في الشركات الحكومية، لكونها الطريقة المميزة لدفع عجلة النمو وتنمية الموارد وتوليد الوظائف وتحسين الأداء. ومع انخفاض أسعار النفط وتراجع مواردنا المالية ولجوئنا للاقتراض من المؤسسات المالية، أصبح لزاماً علينا أن نمضي قدماً في استخدام هذه القاعدة الاقتصادية لتصبح شركاتنا الحكومية المخصصة جوهرة اقتصادنا الوطني وملاذنا التنموي الآمن.
ولأن تخصيص شركة أرامكو يؤدي إلى توفير المزيد من الاحتياطات النقدية، أعلن الأمير محمد بن سلمان عن تخصيص 5 % من عوائد أسهم أرامكو لإنشاء صندوق سيادي يعتبر الأكبر في العالم وبتمويل يصل إلى تريليوني دولار أميركي. ويقوم هذا الصندوق على إنشاء المشروعات الإنتاجية التنافسية والاستثمار في الشركات العالمية الكبرى، لكي يستفاد من ريعها في تنويع مصادر الدخل في عصر ما بعد النفط.
ولتحقيق هذا الهدف ستسعى المملكة إلى اختيار نوع الصندوق المناسب. فهنالك النوع الذي يهتم باستقرار وحماية الميزانية من تأرجح أسعار السلع، والنوع الذي يهدف إلى الادخار لتنويع الأصول المتجددة، بينما يقوم النوع الثالث على الاستثمار لزيادة عوائد الاحتياطيات، ويهتم النوع الرابع بتمويل المشاريع التنموية.
وبينما تتفق هذه الصناديق السيادية على وسائل إدارتها إلا أنها تختلف في مصادر تمويلها، فالنوع الأول يعتمد على التمويل من عوائد النفط، والنوع الثاني يعتمد على فوائض ميزان المدفوعات الجارية، بينما يعتمد النوع الثالث على عوائد خصخصة القطاعات الحكومية، مثل شركة أرامكو، ويعتمد النوع الرابع على فوائض الميزانية.
في العام الماضي صدرت إحصائيات "معهد الصناديق السيادية" الدولية لتؤكد أن الصندوق السعودي حل في المرتبة الثانية عربياً والرابعة عالمياً من حيث الحجم بعد الصين التي ارتفعت قيمة صناديقها السيادية إلى1827 مليار دولار أميركي. وحلت النرويج في المرتبة الثانية عالمياً بقيمة 893 مليار دولار، ثم صندوق أبو ظبي في الإمارات بقيمة 773 مليار دولار. كما جاء صندوق الكويت السيادي، الذي كان أول الصناديق تأسيساً في عام 1953، في المرتبة الثالثة عربياً بقيمة 410 مليارات دولار أميركي، تلاه الصندوق القطري في المرتبة الرابعة بحجم 170 مليار دولار.
ومع بداية العام الجاري وصل عدد الصناديق السيادية في العالم إلى 652 صندوقاً، وبلغت قيمتها الإجمالية حوالي 7 تريليونات دولار أميركي، والتي من المتوقع أن ترتفع إلى 10 تريليونات دولار في نهاية العام الجاري. ولكن بعد تحقيقها أرباحاً ضخمة في بداية العقد الجاري، انكمشت أرباح هذه الصناديق في العام الماضي بسبب تنوع استثماراتها في الأسواق الناشئة عالية النمو، مما أدى إلى ضعف عوائدها في الفترة الأخيرة بسبب استثماراتها التي فاقت 5 تريليونات دولار في أصول النفط وأسواق الأسهم. وعلماً بأن الأسواق الناشئة في الشرق الأوسط وآسيا استحوذت على 62 % من عدد الصناديق السيادية العالمية، إلا أن هذه الأسواق تحتاج إلى اعتماد مبادئ الشفافية في إدارتها المالية والاستثمارية لتحقيق المزيد من الأرباح المرجوة وجذب رؤوس الأموال.
وبالرغم من أن أحجام وموجودات الصناديق السيادية في جميع أنحاء العالم لا تمثل سوى 15 % من الأصول المدارة من قبل شركات التأمين، و27 % من الأصول المدارة من قبل صناديق المعاشات، و50 % من احتياطات الصرف العالمية، إلا أن هذه الصناديق تمتلك القدرة على زيادة عوائدها في الأسواق المالية، وتوفير الاحتياطيات اللازمة لمواجهة تقلبات الأسعار ودعم الميزانية وتقليص الديون.
وحيث إن المملكة في أمس الحاجة إلى تخفيض اعتمادها على النفط كسلعة وحيدة للدخل، من خلال إنشاء أكبر صندوق سيادي عرفه التاريخ لاستخدامه في توسيع قاعدتنا الاقتصادية وتشجيع تدفق استثماراتنا المحلية والعالمية وفتح الأبواب لمبادراتنا التنموية وتوفير الوظائف ذات القيمة المضافة العالية، جاء تصريح الأمير محمد بن سلمان عن تحويل شركة أرامكو الحكومية إلى تكتل صناعي عملاق لتحقيق هذه الأهداف. ولم يكن القصد بيع احتياطاتنا النفطية لتغطية العجز في الميزانية وتعويض التراجع في أسعار النفط، فاحتياطاتنا النفطية ليست للبيع.