شيءٌ ما يحدث في السعودية الآن، حيث تعيش البلاد في خضمّ تغييرٍ حقيقي. وقد كتب الكثير من المعلّقين حول ذلك، لكن في بعض الحالات بنيت ملاحظاتهم على مقارنة تستند لزيارة وحيدة، الأمر الذي يخضع لتحيّزات ما تعلّموه دون وضعه في السياق التاريخي.
أنا لست بأي حالٍ من الأحوال خبيرا بالسعودية، لكن كأي شخصٍ زار البلاد لأكثر من 40 مرة في الـ 4 عقود الماضية، والذي كان قادرًا على إجراء استطلاعات في المملكة خلال آخر 15 عامًا، أرغب في مشاركة بعض استنتاجاتي من زيارتي الأخيرة التي أكملتها للتوّ كما أريد مشاركتكم بعض استطلاعات الرأي الأخيرة.
ويمكنني القول بأنّ السعودية هي دولة حديثة لطالما كانت تتغيّر. وعلى سبيل المثال، في بدايات الخمسينات من القرن الماضي، كان عدد سكّان الرياض، العاصمة، يقدّر بعشرات الآلاف. وبحلول عام 1980، عندما قمت بزيارتي الأولى، كان سكّانها قد وصل عددهم إلى مليون نسمة، واليوم يسكن بالرياض 7 ملايين. وقد مرّت المدينة بأوقاتٍ بدت فيها وكأنّها موقع إنشاءات هائل مع مشاريع بناء المباني وإنشاء البنى التحتية في كلّ مكان. وكان السعوديّون يمزحون فيما بينهم بأنّ الطيور في المملكة هي الرافعات.
لكنّ التحضّر السريع كان له ثمن. وكشعب ريفي تدفّق داخل المناطق الحضرية التي امتدّت حديثًا، عانى الكثيرون من صدمةٍ حضارية، وكانوا يشعرون بالحاجة للعودة إلى نقاء «الوسائل القديمة»، وهي الاستجابة التي لم تكن متوقّعة.
ومع مرور كل عام حدثت بعض التغييرات الطفيفة لكنّها كانت حقيقية. وبعض تلك التغييرات كان نتيجة عشرات الآلاف الذين درسوا بالخارج. والأخرى كانت تبعًا للتحوّلات في الحياة اليومية والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي نتجت عن التحضّر. وعكست بعضها تأثير العولمة وخاصةً بين الشباب السعودي. وعلى أيّ حال، فالسعودية اليوم ليست هي التي زرتها منذ جيل، مع وجود العديد من السعوديين يعيشون حياةً ويتواصلون مع العالم بطرق لم يتخيّلها أجدادهم. ومع ذلك، تبقى العادات كما هي، وذلك كافٍ للغرب لاتّهام ثقافة البلاد بالجمود. ويظهر أنّ التغيير إذا لم يأتِ على هوانا، ويرتدي الزيّ الغربي، ويحدث «بطريقتنا»، فإنّه ليس تغييرًا حقيقيًا.
تسريع التحول
لكن حتّى وراء هذا التطوّر البطيء والثابت هناك شيءٌ جديدٌ وهامٌ يحدث في المملكة. يوجد اليوم محاولة واعية ومدروسة من قبل القيادة السعودية لتسريع هذه العملية لتحويل المجتمع وتحدّي بعض عناصر الثقافة التقليدية التي تقف في طريق تحريك البلاد إلى الأمام. وتعدّ الحاجة الاقتصادية الملحّة لتنويع الاقتصاد بعيدًا عن الاعتماد على النفط أحد دوافع هذه المحاولة. ويوجد دافع آخر ببلوغ جيلٍ جديد من القيادة سن الرشد وحاجتهم تحديث بلادهم لكن مع مراعاة واحترام التقاليد. ومن المهم شقّ الطريق بحذر في هذا الطريق الشائك لأنّ شريحة كبيرة من المواطنين لا تزال محافظة، ولا يمكن للقيادة الجديدة الشابة أن تنحرف تمامًا عن النظام الاجتماعي وخلق حالة من عدم الاستقرار.
وكجزء من هذا الجهد الوطني من أجل التحوّل الاجتماعي والاقتصادي، زاد عدد السعوديين الذين يدرسون بالخارج لأكثر من مائتي ألف شاب من جميع شرائح المجتمع السعودي ومن كل أنحاء البلاد. ويوجد الآن أعدادًا أكبر من النساء عن الرجال في الجامعات، وتدخل الخريجات سوق العمل بأعدادٍ متزايدة. وكانت هناك جهود حثيثة، بالعمل مع المتخصّصين الدوليين، لتحديث مناهج التعليم في جميع المستويات الدراسية.
وفي خلال زيارتي الأخيرة للسعودية، تلقّيت دعوة لمؤتمر صحفي بوزارة التعليم، وأدهشتني الإصلاحات التي يخطّط لها في مراحل الطفولة المبكرة والتعليم الابتدائي، وكذلك تركيز الاهتمام على مادتي الرياضيات والعلوم، وبرامج تدريب المعلمين والأخصائيين على دمج الأطفال ذوي الإعاقة. وهناك جهود أيضًا لتوفير فرص التعليم المنزلي عبر الإنترنت لكل الأعمار من السعوديين. وكل هذه التغييرات معًا بالطبع ستنتج تحوّلات عظيمة خلال السنوات القادمة.
لكن كيف يفكر السعوديون حول بلادهم والظروف الخاصة بهم في هذا الواقع الاجتماعي المتطوّر. لكي نكون واقعيين، يوجد انقسام، بين هؤلاء الذين يرون أنّ التقدم لا يسير بالرتم المطلوب، وآخرين يرفضون قطعيًا أيّ حداثة أو تهديد للنظام القديم. وهذا متوقّع في أي مجتمع يسير في طريق التغيير. ولكن ما تظهره استطلاعات الرأي أنّ غالبية السعوديين، رجالًا ونساءً، صغارًا وكبارًا، متعلّمين وقليلي التعليم، راضون عن حياتهم ومتفائلون بالمستقبل.
وبقدر ما نصف برنامج التحوّل الوطني بالطموح والواعد، فهو أيضًا محفوفٌ بالمخاطر. فمن جانب، توجد توقّعات متفائلة نحو التغيير، يوجد على الجانب الآخر رد فعل عنيف من المحافظين الذين يعبّرون عن قلقهم إزاء الحركة المدبّرة لتحديث المجتمع.
ولا ننسى تأثير الحرب الكارثية والمكلّفة في اليمن. تشعر السعودية بقلقٍ عميق إزاء الطموحات الإيرانية العدوانية والمتسبّبة في زعزعة استقرار جارتها الجنوبية. لكنّ محاولتها إعادة تنصيب الحكومة الشرعية التي أطاحت بها الميليشيات المدعومة من إيران لم تنجح. وقد خرجت التقارير حول أعدادٍ كبيرة من الضحايا المدنيين وأعدادٍ أخرى كبيرة تعاني كارثة إنسانية هناك في اليمن، وقد أضرّ ذلك بصورة المملكة في الغرب. ثمّ هناك التكاليف الخاصة بتراجع أسعار النفط والمرتبط ببرنامج التحوّل الوطني.
ولا يوجد إلّا متهكّمٌ قاسي أو متعصّب شديد التعصّب قد يرغب في فشل برنامج التحوّل الوطني. وفي الوقت نفسه، فمن السّذاجة أن نفترض أنّ البحر هادئ وأنّ كلّ التروس ستعمل في النهاية. النجاح ليس مضمونًا، وتبقى المشاكل الحقيقية والتحدّيات الخطيرة في المستقبل. لكن يجب الاعتراف أنّ السعوديّين قد حملوا مستقبلهم بأيديهم ويصنعون التغيير بطريقتهم. وينبغي دعمهم.
هافينغتون بوست- ترجمة وتحرير شادي خليفة - الخليج الجديد-