الخليج الجديد-
تطوران مهمان حدثا على صعيد استراتيجية دول الخليج المستقبلية الاقتصادية، ولا يمكن إغفالهما، خاصة أنهما حدثا بشكل متزامن تقريبا، يدل على أن الأمر بات يحتل مساحة اهتمام معتبرة في أذهان صانعي خطط ورؤي تلك الدول خلال السنوات المقبلة.
في 17 سبتمبر/أيلول الجاري، أعلنت قطر اعتزامها إنشاء أول مصنع للسيارات الكهربائية في الشرق الأوسط بتكلفة تقدر بنحو 9 مليارات دولار، وذلك ضمن رؤية "قطر 2030" لتنويع الاقتصاد، القائم بالأساس على الغاز والنفط.
ومن أجل تلك الخطة، أنشأت الدوحة شركة "الجودة" لتكون الطرف المنفذ للمشروع داخل البلاد، بالتعاون مع شركة ARM اليابانية، وهي واحدة من كبريات الشركات اليابانية العاملة في مجال تكنولوجيا وتصميم النظم والبرمجة لخطوط إنتاج السيارات الكهربائية في العالم.
بعد ذلك بساعات، أعلن صندوق الاستثمارات العامة السعودي (سيادي) أنه اتفق على استثمار أكثر من مليار دولار في شركة "لوسيد موتورز" لإنتاج السيارات الكهربائية، مضيفا أيضا أن الأمر هو أحد الخطط التنفيذية لرؤية 2030، التي يتبناها ولي العهد الحالي "محمد بن سلمان".
قبل ذلك بأيام، تردد أنباء عن أن الصندوق السيادي السعودي للثروة يدرس رفع حصته التي تقارب 5% في "تسلا"، وهي المنافس الرئيسي لـ"لوسيد".
ما دعم تلك الأنباء هو حديث رئيس شركة "تسلا"، "إيلون ماسك"، في أغسطس/آب الماضي عن مساع لتحويل شركته إلى القطاع الخاص، عبر ضخ "استثمارات مضمونة"، وكان الحديث يدور عن استثمارات سعودية تبلغ قيمتها 50 مليار دولار، كمبلغ لتمويل عملية سحب الشركة الأمريكية من البورصة، وشكل الأمر أحد أكثر الأنباء مهمة في السوق الاقتصادي الأمريكي والعالمي.
لكن الأمر يبدو أنه لم يتم، ولن يتم الآن، حيث نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن شخصين على دراية بالموارد المالية لصندوق الاستثمار السعودي، قولهما إنهما يشكان في وجود أي مناقشات جادة جارية حول أخذ الصندوق حصة أضخم في "تسلا"، وإن الصندوق، في الواقع، يكافح لإيجاد طرق لتمويل التزاماته الحالية.
إذن الأمر المؤكد هو الاستثمار المباشر في "لوسيد" بمبلغ يتجاوز مليار دولار بقليل، مع الاحتفاظ بنسية الصندوق حاليا في منافستها "تسلا"، وإن كانت الخطط لتوسيع تلك الحصة لم تتوقف، رغم التراجع المرحلي الحالي.
الخلاصة أن لدينا استثمارات قطرية بنحو 9 مليارات وسعودية (مباشرة بحوالي مليار دولار وأخرى غير مباشرة) في سوق السيارات الكهربائية، وأن حكومتا الرياض والدوحة تسعيان لتطوير تلك الاستثمارات ضمن خططها المستقبلية.
الخطوة القطرية والسعودية
أولى الملاحظات هنا تشير إلى أن الاستراتيجية القطرية في المجال يبدو أنها تسير بخطوات أكثر ثقة وتركيزا نحو المستقبل، وأنه تم وضعها بشكل مخطط، حيث اختارت الدوحة أن تخترق المجال بمصنع ضخم سيكون هو الأول في الشرق الأوسط، رصدت له تمويلا جيدا، ووضعت الخطط التنفيذية لعمله بشراكة يابانية وثيقة.
السعودية، بدورها، لا تزال تراوح بين قرارات الاستحواذ البسيط على أسهم الشركات الكبرى الأمريكية، وبين قرارات التمويل المباشر من صندوق الثروة السيادي لتلك الشركات، ولا يبدو الصندوق مستعدا حاليا لإحاز هدف كبير في هذا المجال، على طريقة "محمد بن سلمان" عندما أعلن عن مشروع "نيوم" مثلا، ووضع له عشرات المليارات من الدولارات بشكل مفاجئ، مما أثار تخوفات وانتقادات.
لكن ما يحسب للرياض هو أنها اختارت تنويع تواجدها الاستثماري بين أكبر شركتين في العالم، "تسلا" و "لوسيد"، وهي خطوة يمكن البناء عليها، في حال وجود إرادة لتطويرها، والأهم استقرار الموارد، في ضوء التصلب الذي تعاني منه استراتيجية صندوق الثروة السيادي السعودي، مع عدم استقرار البيئة السياسية والاستثمارية بالمملكة، لاسيما بعد قرار الملك "سلمان" بإلغاء اكتتاب "أرامكو"، وهو القرار الذي هز صورة نجله ولي العهد وعراب رؤية 2030، ومكانة الصندوق السعودي عالميا.
لماذا وضعت دول الخليج الاستثمار في السيارات الكهربائية ضمن أبرز أولوياتها في استراتيجية تنويع مصادر اقتصادها؟
قد تكون إجابة هذا السؤال هي الأهم والأكثر إلحاحا في هذا التقرير، ويمكن إجمالها في عدة نقاط:
1- السيارات الكهربائية ستكون خليفة الهواتف الذكية.
لم تحتج الهواتف الذكية إلا إلى بضع سنوات ليتعاظم إنتاجها وتصبح جزءا أساسيا من حياتنا اليومية، بعد أن كانت قبل ذلك مظهرا للرفاهية، ويكمن السبب في أنها أدمجت تقنيات مختلفة في منتج واحد أدى إلى تحسن في حياة الناس (إلكترونيات تكلفتها قليلة، واي فاي، نظام GPS، أجهزة استشعار، كاميرات متطورة، شاشات تعمل باللمس).
نفس الأمر ينطبق على السيارات الكهربائية، إذ ينخفض سعر التقنيات التي تدخل في إنتاجها بدرجة تسمح لها أخيرا بمنافسة السيارات التقليدية التي تعمل بإحراق الوقود.
2- السيارات الكهربائية هي المستقبل.
كانت أبرز عيوب السيارات الكهربائية أمرين، الأول ارتفاع سعر بطارياتها بشكل كبير، والثاني مدة شحنها الطويلة، لكن الآن تعكف الشركات الكبرى على تقليل كلفة الأمر الأول، وتحسين جودة الثاني، ويتوقع إحراز نتائج مبهرة في هذا الإطار خلال السنوات القليلة المقبلة.
علاوة على ذلك، بدأت العديد من الحكومات في إقرار سياسات لتشجيع الاستثمار في تلك السيارات، عبر منح إعفاءات جمركية وضريبية عليها، ضمن سياسات عالمية للحد من الاعتماد على النفط كطاقة أساسية.
ومع الأخذ في الاعتبار أن اقتصادات دول الخليج قائمة في الأساس على النفط، فإن تكثيف الاستثمارات الخليجية في السيارات الكهربائية يجب أن يتضاعف ويأخذ شكلا منظما، على غرار النموذج القطري.
وهناك ميزة تنافسية لتلك الدول قد تجعل استثماراتها في ذلك المجال جيدة جدا، وهي وفرة الطاقة الشمسية وقوتها، وهي ستكون الأساس في طريقة عمل تلك السيارات، حيث ستخزن محطات شحن السيارات الكهربائية الطاقة من الشمس، وستحتوي السيارات ذاتها على بطاريات مرتبطة بخلايا شمسية للتخزين المباشر، بل إن هناك خططا لجعل السيارات مصدرا لتخزين الطاقة الشمسية بسبب تحركها نهارا، ثم تبيع الفائض عن حاجتها للمحطات ليلا أو لمنشآت أخرى، أي أن السيارات الكهربائية ستصير بطاريات للمدن.
وفي منتصف 2017، أعلنت شركة "فولفو" السويدية أنها تنوي التخلي عن تصنيع محركات البنزين وتستبدلها بمحركات تعمل على الكهرباء بدءا من العام 2019، وقال رئيسها التنفيذي "هاكان سامويلسون" إن "هذا ما يريده المستخدم، فالناس يقبلون بشكل متزايد على السيارات الكهربائية. ونحن نسعى إلى تلبية حاجات عملائنا الحالية والمستقبلية".
يبدو أن السيارات الكهربائية لن تكون فقط المستقبل، فقد بدأت أن تكون الحاضر أيضا.
هناك نقطة مهمة أخرى، وهي أن ارتفاع أسعار النفط من عدمه لم يعد عاملا بارزا في تحول شركات صناعة السيارات إلى الكهرباء، فاستقرار أسعار النفط عند أعلى مستوياتها أمر لا يمكن التعويل عليه ولا يمكن التنبؤ به كما يشير لذلك "كارلوس غصن"، المدير التنفيذي لشركتي "رينو" الفرنيسة و"نيسان" اليابانية.
ويقول "غصن" إن ما يمكن التنبؤ به أن قوانين انبعاثات الغاز في الدول ستصبح أكثر صرامة مع مرور الوقت وهذا ما يعطي شركات السيارات الكهربائية حافزا للتطوير والإنتاج على المدى المتوسط والبعيد.
ولا يمكن إغفال المفاضلة بين أسعار الوقود والكهرباء بعد ارتفاع أسعار الطاقة العالمية، فهي من بين الأسباب المحفزة على استثمار الشركات في سيارات الكهرباء، فمثلا في أوروبا وأمريكا سعر البنزين مرتفع مقارنة بالكهرباء، فضلا عن المخاوف المتعلقة بإمدادات النفط حول العالم وهو المادة التي تدور حوله الحروب وتقام سياسات الدول.
وقد أضحت سيارات الكهرباء منافس كبير للسيارات التقليدية من حيث السرعة والجودة واستهلاك الطاقة، إذ تستطيع السيارة التي تعمل بمحرك كهربائي الوصول من سرعة 0 – 100 كلم في ثواني معدودة، والسير بسرعة عالية، مع استهلاك طاقة أقل مقارنة بما تستهلكه السيارات التي تعمل بالوقود، حتى أنه يمكن أن يقطع الراكب بسيارته أكثر من 200 كلم قبل قيامه بإعادة شحن البطارية.
وحالما تتكافئ تكاليف سعر السيارة الكهربائية وشحنها بالكهرباء وأمور الصيانة والخدمات الأخرى مقارنة مع السيارات التي تعمل بالوقود، سيكون هناك تبدل كبير في سوق السيارات العاملة بالوقود.
يمكن، ختاما، القول إن دول الخليج بتصاعد استثماراتها في مجال السيارات الكهربائية، اختارت مبدئيا أن تواجه الخطر بالانغماس في سببه، فالسيارات الكهربائية متوقع أن توجه ضربة كبرى لسوق النفط الذي تهيمن عليه تلك الدول، وذلك في حالة التغلب على الصعوبات الحالية التي تعوق انتشارها، وهو ما قطعت الشركات شوطا بارزا فيه.
وقبل أن تجد تلك الدول أن النفط لم يعد مطلوبا في تشغيل السيارات، وهو ما يعد أهم أسباب وجوده واستمرار حرص العالم عليه، يجب وضع استراتيجيات طموحة وحقيقة لتكثيف الدخول إلى سوق السيارات الكهربائية.
يمكن لدول الخليج أن تخطط لأن تكون مركزا جديدا للطاقة الكهربائية، التي ستكون عصب العالم، في حالة انتشار السيارات الكهربائية، مستغلة وفرة الطاقة الشمسية بها، وصولا إلى وضع استراتيجية طموحة أخرى للاستثمار في مجال المحطات المتتجة لتلك الطاقة، لتصدرها لدول العالم التي ستكون بأشد الاحتياج لتوفيرها من مصدر مستمر ومستقر لتأمين طاقة تلك السيارات.
وفي تلك الحالة، قد تتحول دول الخليج من مصدر لتأمين طاقة النفط إلى مصدر آخر لتأمين الطاقة الجديدة، والتي ستكون أهم من النفط.